; من بُرود الجنَّة | مجلة المجتمع

العنوان من بُرود الجنَّة

الكاتب شريف قاسم

تاريخ النشر السبت 20-ديسمبر-2003

مشاهدات 20

نشر في العدد 1581

نشر في الصفحة 52

السبت 20-ديسمبر-2003

توالت أيام العزاء الثلاثة وعبد القادر وأولاده يشكرون المعزين، ويدعون لهم، فقد رحل الجد المجاهد إلى دار الخلود، فأعظم الله الأجر وغفر للميت، والسعيد من نال الفوز، وحاط الدمار وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له رزية مال أو فراق حبيب وخلا البيت لأهله إذ تفرق الناس، وجمع عبد القادر زوجته المؤمنة وأولاده عمارًا وحارثة وابنته عاتكة ليقول لهم إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيرًا، اللهم اغفر لأبي، ولا تحرمنا ثواب صبرنا ورضانا بما قدرت وتنهمر عينا عمار بالدموع، فما يزال يذكر الليالي الحلوة، التي كان يحدثهم فيها الجد عن أيام زمان، وعن جهاده عام ١٩٤٨م، لقد كان قويًا ذا شكيمة وبأس، وتسرح عينا حارثة تغشاها العبرات وتهدى أمه من شجوه، فينطلق لسانه يصف الجرح الذي أصيب به جده قرب القرية بعد هجوم للمجاهدين على قافلة صهيونية، أما عاتكة طالبة الثانوية فكانت تشغل بالها حكاية الرعب الهمجي في قبية ودير ياسين، وتأخذ بمجامع فؤادها الطاهر غزارة الدماء الفوارة، لتنتقل بها من عام ٤٨م وعام ٦٧م على رفارف القصص إلى واقع ۲۰۰۳م، حيث مشاهد الطعن والرفس وشق البطون والقبور الجماعية في جنين والمشهد يتجدد رعبه وأهواله وتستأنف رسوماته الحضارية تحت وطأة التصفيات الجسدية المتطورة تطور آلات الفتك والتدمير في ظل العولمة المحدثة، التي اصطنعها صهاينة العصر الحديث، فأيقظتها من وجومها الصارخ كلمات أمها الصابرة التي فقد أحد إخوانها في المسجد الإبراهيمي مالك يا عاتكة ؟ تصبري يا بنيتي هذا قدرنا وكأن عاتكة عادت من رحلة مشحونة باليقين والإيمان تطاول فيها عنقها، واشرأبت عيناها خلف تلك الإرهاصات والآمال وكأنها تلمح بيارق النجدة.

وقالت: نعم يا أمي، توغلت في متاهات القلق والحيرة، وشحنت مشاعري بشكوكي بقدرة هؤلاء المترهلين على موائدهم الدسمة على حمل أمانة النجدة والثأر وآل بنا تاريخهم البائس إلى ما ترین تاریخ نشاز في مسيرة أمتا دونه تجار العداوة لديننا وقيمنا وأرضنا، ولم نعد نتحمل إعادته وهو مثقل بوحشية اليهود التي هانت عندها همجية المغول.

أجل يا بنيتي قلق واضطراب، وعواصف من ركام الأذى المتجدد على نفوسنا وطعنات الحقد الموجعة في قلوبنا ولذلك بتنا نستهجن همم الأهـل والجيران من أبناء العروبة والإسلام، التي كنا نعتد بها، ولكن.

ويقاطعها الزوج ويحك يا أم عمار، والله تكاد تجف انشراحات صدورنا وتسقط أصداء النداءات الرحيمة في وديان المرارات التي تخيم فوقها غيوم القهر والإذلال وغلبة الظلم.

ويعتدل الوالد في جلسته، ويمسح على لحيته التي مازالت ندية من دموع الفراق التي ذرفه على والده، ويرنو إلى مسافات بعيدة بعيدة ليرى وجه الأمام مشرقًا في وجوه الأجيال التي تربت على منهاج النبوة وتنطلق العبارات من فيه ساحرة حروفها وضيئة رؤاها متى وكيف يعود لامتنا زهو نضارتها، وتلبس حلل مجدها المطرزة بالحق، والقوة والهداية والخير؟ أليست المصائب والنوازل -كما يقال- هي صرخات الإنذار، ويلهم أيريدون أشد مرارة من هذا الواقع.

ويطرق باب الدار، ويقوم عمار ليفتح الباب، وليستقبل خاله أبا عبادة وأولاده خالدًا وهاشمًا ومعهم خطيبته سمية، وينعقد الشمل ويعانق أبو عمار أبا عبادة ويجهشان بالبكاء، ويردد أبو عبادة إنا لله وإنا إليه راجعون جاءني النبأ، ولكن كما تعلم الحواجز والمنع حالا دون المجيء في اليوم الأول لوفاة الحاج صالح يرحمه الله هذا أبو عمار من روعه لا عليك هكذا الدنيا وجلس الجمع المبارك في بهو الدار، بينما كانت أحاديث

النساء في الغرفة المجاورة تخالطها العبرات. وصلى الناس فريضة العصر ومعهم آل الفقيد، وعاد معهم إلى البيت بعض الأصدقاء الذين لم يحضروا أيام العزاء ليسلموا على الضيف أبي عبادة.

ودارت نفس الحكايات والأخبار التي تتناقلها الإذاعات والفضائيات، إلا أن بعض الحكايا لا يجرؤ الإعلام الرخيص على البوح بأسرارها، والوقوف على ما تستند إليه، غير أن الضيف القادم من القدس الشرقية، فجرت حسراته حكاية عاشها مع الحاخام اليهودي القادم من ألمانيا، حين استعاد ذكريات استشهاد أخيه في المسجد الإبراهيمي على يد الحقد والإجرام الصهيوني، فجاء ذكر الحاخام عرضًا، هكذا بدون قصد، لقد عاد إلى بلده، ولكنه أبَى إلا أن يسلم على أبي عبادة، وينقل إليه وصايا جديرة بالاهتمام، قال أبو عمار ما زلت أذكر قصته العجيبة، وزيارته وصلاته في المسجد العمري انتبه الحاضرون حاخام يهودي يزور مسجد عمر بن الخطاب ويصلي فيه اندفع عمار إلى جوار خاله وسأله أن يقص عليهم هذه المشاهد التي ما سمعوها من أبيهم، استدرك أبوه قائلًا: ما هو إلا رجل عرف الحق في دين محمد ﷺ فأسلم، ازداد إلحاح عمار على خاله، واجتمعت أذان الحاضرين في بهو المنزل على سرد ممتع ومضمون أثار الدهشة لديهم منذ بضع سنين، وفي أحد أیام شهر آب، وقت القيلولة مر عليَّ وأنا في حانوتي الذي تعرفونه قرب الحرم القدسي ذلك الحاخام اليهودي، وألقى التحية، وطلب منِّي أن أدله على المسجد العمري فخفق قلبي، وهممت بأمر، ولا أعرف في آخر حواري معه كيف أشرت له على الطريق المؤدي إلى الحرم العمري، فانطلق، وشعرت بدافع قوي في داخلي أن ألحق به وأنفذ ما هممت به من قبل فتركت ابني عبادة - يشير إليه - جالسًا في الدكان، وهرعت خلف الحاخام، وهو يغذ السير في شارع يكاد يكون خاليًا من المارة لشدة حرارة الشمس، ولأمور أخرى، ويهز الحاضرون رؤوسهم أن نعم وهنا قاطعه أبو عمار قائلًا: وما راعه إلا والحاخام الظريف يخلع قلنسوته من على رأسه، ويلفها بثوبه الأسود، ويضع طاقية بيضاء على رأسه ويدخل من أحد الأبواب؛ ليتوضأ نعم.. نعم.. قال أبو عبادة وكم كنت أتمنى لو أجيد مثل وضوئه ذاك. ودخل الحرم في الجامع العمري ليصلي ركعتين تمنيت مرة أخرى لو أجيد خشوعهما وما فيهما من سكينة.

رأيت والله انسياب دموعه على خدَّيه، قال أبو عمار وكيف سبقته إلى دكانك.. نعم.. سلم ذات اليمين وخشيت أن يراني فأسرعت إلى حانوتي وجلست ولم أجب على طلب ابني عبادة الذي سألني عما رأيت، وإذ بالحاخام يعود من نفس الطريق ويلقي التحية علينا، فلقت له: هل زرت المسجد العمري قال نعم إنه ذو مهابة، ولا أعرف كيف قلت له: وماذا فعلت؟ تسمر الرجل ونظر إلى مليًا وكأنه عرف شيئًا ما، تقدم إلى وقال: لا شيء تأملت في جدران المسجد وقاطعه أبو عبادة قائلًا: ولكني رأيتك فعلت كذا وكذا وكذا، أمسك بيدي بكل قوة، وقال: أسألك برب محمد ألا تحدث أحدًا بما رأيت قلت له: إذن أخبرني بقصتك، وجلس يذكر قصة إسلامه منذ عشرين سنة في ألمانيا وأنه يحفظ القرآن الكريم والكثير الكثير من أحاديث المصطفى، وأنه من علماء اليهود الذين يعرفون عقائدهم وأباطيلهم.

واستعجل عمار الإجابة عن الوصايا، فالتصق بخاله قائلًا: قلت يا خالي إنه سافر إلى بلده منذ أيام، ومر عليك مسلمًا ومودعًا وموصيًا أجل يا بني كانت وصاياه تتمة لأحاديث تجاذبنا أطرافها في لقائنا الأول. ولكنه متفائل بنصر المسلمين، ولا أخفي عليكم حديثه الشجي حين قال: النصر - لا ريب – للمسلمين، ولكن ليس لهؤلاء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، والذين استعذبوا ما حرم الله من الموبقات وحاربوا سنة نبيهم ﷺ وأحدثوا أبشع المنكرات التي جعلتهم يتراجعون أمام طغيان واستكبار اليهود.

كانت عيون الحاضرين شاخصة، ووجوههم واجمة وآذانهم تسأل أبا عبادة المزيد. وقال الرجل: أعلم أن اليهود جبناء، وأنهم يخافون أشد الخوف من صيحة الله أكبر، ومن انعقاد لواء تحت شعار من يبايع على الموت»، ونداء: من يشتري الجنة بدمه؟».

ولمعت في وجهه ومضة نورانية وهو يقول: ألم تعلم أن ملحمة النصر المرتقبة والنهائية تبدأ بشرطة الموت، وهم المجموعة الفدائية الاستشهادية التي لا ترجع إلا غالبة، وهم أول وقود الوقعة في المرج الشامي المعروف، فالشهداء يومئذ هم أكرم الشهداء عند الله ومجموعتهم الرابعة يكتب الله لها النصر المؤزر. وهذا من إخبار من لا ينطق عن الهوى الله، وماذا بعد

يا خالي؟ يا عمار بشرني الرجل بالنصر، وقال: اثبتوا فوالله إن اليهود ليس لهم القدرة على الصبر والثبات، كان الحاضرون مستغرقين في سماعهم لوصية حفيد ابن سلام -رضي الله عنه- بينما ارتفع صوت النساء في الغرفة المجاورة بالبكاء قام عمار وأغلق الباب، وترك النساء لشأنهن، وفاته أن من بينهن شابات مؤمنات قرأت عن الخنساء وسمية، وغيرهما من المجاهدات.

كانت سمية جالسة قرب ابنة خالتها عاتكة، وما انشغلتا بأخبار المدارس والجامعات عن أخبار أهل فلسطين عن الشهداء والمعتقلين عن الحصار والاستكبار، وعن امتداد الظلم وبناء الجدار، وقطع الأشجار، قالت سمية قلوب الناس متقدة، وأماقيهم منهمرة بالدموع السخينة، لم يبق في أرضنا ربيع ولا عصافير تشقشق ولا نوارس تحلق ما عدنا نعرف إلا المواجع النفاذة في أحنائنا التي تسكنها الآلام منذ ولادتنا اللهم إنا نبرا إليك من فعل السفهاء والفجار، ومن مكائد اللاهين والخائنين دمعت عينا عاتكة وهي تقول: والله لقد آن لهم أن يعودوا إلى مواطن عزهم ومن العار أن يتدثروا بهذا الانفلات الرخيص، ويتنعموا بهذه الهجرة المعكوسة من مغاني الربانية والخيرية إلى مستنقعات النقائص والرذائل المبتذلة. نعم والله يا أختاه وأردفت سمية تقاسم ابنة

خالتها همها الكبير كنا نعيش حلاوة أحلام، ولكنها زائفة أنشأها زيف اللقاءات الذي يتنزى بالشؤم

مساءاته بالألم الممض، لقد تم عنفوان أمتنا بدقة وحنكة قيود تثاؤب محبي الكراسي العاجية، الذين أغوتهم نشوة كاذبة في عصر الفجائع قد خلا من القناديل التي تبعث الطمأنينة في صدور المؤمنين.

في يومان، وفي صبيحة الثالث، عادت أسرة أبي عبادة إلى دارها في القدس الشرقية واستعد الشباب والشابات في كل أرجاء الضفة للالتحاق بمدارسهم وجامعتهم، ويتحلق أبو عمار في أبو عبادة في منزله، كسائر الناس حول الإذاعات والفضائيات، فالأخبار باتت الشغل الشاغل لأهل فلسطين وتعلن إحدى الفضائيات عن نبأ عملية بطولية استشهادية قامت  في جمع من الصهاينة يعلن لاحقًا عن عدد القتلى والجرحى واسم الشهيدة، كانت الثالثة من بعد الظهر وينظر أبو عبادة إلى الساعة تأخرت سمية، وليس من عادتها ويطرق باب المنزل فتسرع الأم وهي تقول جاءت.. جاءت.. وتفتح الباب تجد من يناولها رسالة يا الله ممن ويقرأ عبادة بعد حمد الله والصلاة والسلام على نبيه أهلي الأعزاء سامحوني، لم أعد ما أرى فأثرت ما عند الله ولقاؤنا في جنة الخلد. ولكم تحياتي أخرج هاشم صورتها الأسرة يغمرها حزن مطحون برحى الأفراح الروحية قالت أمها: هذا تفسير رؤياي، لقد شاهدت خالها الشهيد ليلة الجمعة الماضية في قصر تحيط به البساتين وهو يعد مجلسًا وحوله ثياب لم أر مثلها قط، قال أبو عمار تتلألأ في عينيه تلك برود الجنة لسمية إن شاء الله.

الرابط المختصر :