; من ضوابط الإنكار | مجلة المجتمع

العنوان من ضوابط الإنكار

الكاتب د.عبدالحميد البلالي

تاريخ النشر الثلاثاء 20-أغسطس-1985

مشاهدات 14

نشر في العدد 730

نشر في الصفحة 38

الثلاثاء 20-أغسطس-1985

  • الإسلام دين فيه قوة ذاتية فهو لا يحتاج إلى الإرهاب لإقناع الناس باتباعه لأنه لا يخالف الفطرة أبدًا.
  • الأصل في دعوة الناس هو الرفق والمداراة، والأمر بالمعروف بلا غلظة.
  • من فقه الإنكار أن يستخدم الداعية أسلوب «المحاسنة» وهو رد السيئة بالحسنة.
  • من أكبر المقومات المساعدة على استخدام أسلوب «المحاسنة» الشاق على النفس أن يتذكر الداعية صاحب الإنكار عيوبه وأنه ليس في دائرة العصمة.
  • محطم الأصنام

والإسلام دين فيه قوة ذاتية، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى الإرهاب والقسر والسلاسل والحديد لإقناع الناس باتباعه، فمن طبيعته أنه دين حجة، ومنطق لا يخالف الفطرة أبدًا ولا يصادمها، ومشهورة قصة محطم الأصنام إبراهيم عليه السلام مع قومه في شأن الأصنام، وكيف جادلهم عليها حتى ألجمهم فلم يستطيعوا أن يقاوموا حججه التي كان يرسلها عليهم كالقذائف، فما كان لهم إلا أن أمروا بتحريقه وإعدامه، وهذا هو شأن أصحاب المناهج العقيمة التي لا تملك الحجة، فتلجأ مضطرة إلى استخدام العنف لإقناع أتباعها بالمنهج العقيم المصادم للفطرة، ثم تتهم من عارضها بالعنف والتطرف.

ونرى إبراهيم عليه السلام مع النمرود الطاغية الذي أراد أن يكون إلهًا من دون الله كيف يخاطبه، وكيف يعرض عليه الحجج دون أن يجرحه أو يسبه أو يستهزأ بطريقة تفكيره.

يقول تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة: 258) «١٢٤».

كان من الممكن أن يكون جواب ذلك الملك الذي حاج إبراهيم في ربه مستفزًا لإبراهيم عليه السلام، ومفقدًا لأعصابه، وبذلك يتمكن عدو الله منه بسهولة، لكن إبراهيم عليه السلام الداعية الحكيم تمالك أعصابه ولم يستفزه هذا الجواب من ذلك الملك الأحمق، ولم يرد أن يدخل معه في جدال عقيم وسباب ومشاتمة فينحرف عن الهدف الذي حدده مع ذلك الطاغية، وما أحب أن يدخل معه في نقاش طويل حول ما ادعاه من الأحياء والإماتة، لأن الملك ما كان يستوعب أو إنه كان مكابرًا ويعتقد أنه يمكن أن يحيي بالعفو عن رجل حكم عليه بالإعدام، ويمكن أن يميت بقتل رجل بريء، ومادام هذا هو تفكيره بما فيه من سطحية، فقد انتقل معه إلى حجة لا يمكن إنكارها. وهذا هو فن الدعوة، وفن الإنكاربالحجة.

يقول الشوكاني «أراد إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد الكافر أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة، فكان هذا جوابًا أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم، لأنه أراد غير ما أراده الكافر، فلو قال له: ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر بادئ بدء، وفي أول وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيسًا لخناقه وإرسالًا لعنان المناظرة فقال «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة» «١٢٥».

إن الداعية الذي تستفزه كلمات أعداء الدعوة، فيفلت من لسانه ما يكون حجة عليه من خصومه معتمدًا على قاعدة السن بالسن والعين بالعين لا يعلم أنه يساهم في تأصيل المنكر، وتثبيته في نفوس أصحاب الضلال ويفقده التأييد من جمهور المستمعين إلى الطرفين، ويجعل لأصحاب الضلال المبرر لسب دينه وقرآنه وكل ما هو مقدس وبسبب هذه النتائج الخطيرة نهى الله سبحانه وتعالى سب الآلهة المزيفة التي يعبدها أصحاب الباطل.

  • نبغض الباطل ولا نبغض أهله.

 الكثير يخلطون بين الباطل والقائم به مما يجعلهم لا يتركون فراغًا في قلوبهم وإن كان يسيرًا فيه رحمة وشفقة تدعوهم للقيام بنصيحة ذلك العاصي، بل يتركونه مع الشيطان دون أن ينتزعوا منه أو يحاولوا الانتزاع، ويحرمونه حتى من بسمة حانية تعيد له الأمل بالرجوع إلى الجادة. وهذا الصحابي الجليل أبو الدرداء يمر على رجل قد أصاب ذنبًا والناس يسبونه، فلم يعجبه ما رأى من صنيعهم، وأراد أن يضيف إليهم من خبرته العميقة في الدعوة، قاعدة لم يبد له أنهم يعرفونها فقال لهم:

«لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟

قالوا: بلي.

قال: فلا تسبوا أخاكمـ واحمدوا الله الذي عافاكم.

فقالوا: أفلا نبغضه؟

فقال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي» «١٢٦».

  • ما أنا عن نفسي براض

 إن أبا الدرداء -رضي الله عنه- عندما قال لهم «واحمدوا الله الذي عافاكم» إنما أراد أن يذكرهم فضل الله عليهم أن هداهم للإيمان ولولا فضل الله عليهم لربما كانوا مثل ذلك الذي يسبونه أو أشد، وأراد أن يذكرهم بنعمة الهداية والتي أنعمها الله على من كان منهم في جاهلية معتمة، فهلا تذكرون الأيام الخوالي فيتنفسوا الصعداء، ويستشعروا نعمة الله عليهم ويقولوا «الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله» ويكون ذلك دافعًا لهم بأن يشفقوا على أصحاب المعاصي و يكفوا عن سبهم، بل يفكروا كيف ينتشلوهم من الوحل الذي يتمرغون فيه، وبعد كل ذلك لابد أن يفكروا دائمًا في تقصيرهم تجاه من هداهم للإيمان، ويحاولوا دائمًا إكمال نقصهم، فهذا هو التابعي الربيع بن خيثم الذي تكاملت صفاته حتى قال له ابن مسعود «لو راك رسول الله لأحبك» «۱۲۷».

يغتاب في مجلس رجل، وكأن القوم أرادوا أن يشاركهم في ذم ذلك الرجل فقال «ما أنا عن نفسي براض، فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس إن الناس خافوا الله في ذنوب العبادوأمنوا على ذنوبهم» «۱۲۸».

وكما أن القاعدة التي علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فكذلك الحال فيمن يقع فيأعراض الناس ويسبهم ويحتقرهم ويحقد عليهم، إنما دعاه لذلك نسيانه لذنوبه وعيوبه وتقصيره.

  • صلة يتفنن بالإنكار

ويمر فتى يجر ثوبه بأصحاب التابعي المشهور صلة بن أشيم ويهمون أن يأخذوه بألسنتهم أخذًا شديدًا، فساءه ذلك، وأراد أن يريهم درسًا عمليًا بفن الإنكار فقال لهم «دعوني أكفكم أمره، ثم قال: يا بن أخي أن لي إليك حاجة.

قال: ما هي؟

قال: أحب أن ترفع إزارك.

قال: نعم ونعمى عيني - أن أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك - فرفع إزاره.

فقال صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم فإنكم لو شتمتموه وأذيتموه لشتمكم»«۱۲۹».

فكم من شتيمة نسمعها من أصحاب الضلال بين الحين والآخر بسبب تصرف كتصرف أصحاب صلة.

  • متى تستخدم الغلظة

ومع أن الأصل في دعوة الناس هو الرفق والمداراة، إلا أن بعض أنواع الناس لا ينفع معه الرفق، بل إن الرفق يجعله يتمادى في منكره ويجعله يتجرأ ويستخدم يده لضرب صاحب الإنكار، وربما آثر إعلانه بمنكره على بعض الضعاف فيجعلهم يتشجعون لفعل المناكر جهارًا أمام الناس، خاصة إذا كان منكره يحمل طعنًا في العقيدة وفي مثل هذا الوضع لابد لصاحب الإنكار أن يقوم بزجر صاحب المنكر، وأن يريه غضبه على ذلك، حتى يكون هذا سببًا لردعه في التمادي في منكره، لهذا يقول الإمام أحمد: «والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق، الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق، فقد وجب عليك نهيه وإعلامه، لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة فهؤلاء لا حرمة لهم» «۱۳۰».

القاعدة العاشرة المحاسنة

ادفع بالتي هي أحسن

 إن صاحب المنكر ما كان ليقبل عليه لولا أنه قد أحبه واقتنع به، فمن الطبيعي أن ينافح ويكابر ويلاسن ويقاتل من أجل الدفاع عن منكره الذي يزاوله. 

فلابد للمزاول لعملية الإنكار أن يتوقع أنه سيواجه أثناء عملية الإنكار السب والشتائم والاستهزاء والازدراء والعناد والمكابرة من مقترف المنكر، لأنه يعتقد أن المنكر عليه قد تدخل في شؤونه الخاصة أو إنه يشعر أن المنكر عليه إنما أراد الاستهزاء به والتعالي عليه، لذلك فهو يطلق جميع أجهزة الدفاع عن النفس عند عمليةالإنكار.

 لذلك كان من فقه الإنكار أن يستخدم الداعية أسلوب «المحاسنة» وهو رد السيئة بالحسنة السيئة التي تصيب صاحب الإنكار شخصيًا وليست السيئة التي تصيب الإسلام أو حرمة من حرماته.

وهو الأسلوب الذي تعامل به أصحاب الرسالات مع أقوامهم، منطلقين من القاعدة القرآنية التي أمرهم الله بتطبيقها في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت:34) «۱۳۱» 

يقول سيد قطب -رحمه الله- «وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات. وينقلب الهياج إلى وداعة والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء على كلمة طيبة، ونبرة هادئة، وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجًا، وغضبًا، وتبجحًا، ومرودًا. وخلع حياءه نهائيًا، وأفلت زمامه، وأخذته العزة بالإثم. غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد. وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها.

حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفًا ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقًا. وهذ السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية. لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها. فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها أو الصبر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولًا» «۱۳۲» 

١٢٤ - البقرة ٢٥٨

١٢٥ - فتح القدير 1/277

١2٦ - مختصر منهاج القاصدين ۱۳۷

۱۲۷ - تقریب التهذيب 1/244 

۱۲۸ - الزهد الأحمد ٢٣٦

۱۲۹ - مختصر منهاج القاصدين ۱۳۷

۱۳۰ - الآداب الشرعية ١/214

۱۳۱ - فصلت ٢٤

١٣٢ - الظلال 8/3121، ۳۱۲۲

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

مع القراء - العدد 28

نشر في العدد 28

33

الثلاثاء 22-سبتمبر-1970

القرآن وأمة العَرب

نشر في العدد 66

32

الثلاثاء 29-يونيو-1971