العنوان مواقف فيها عبر (٤)
الكاتب د. عمر سليمان الأشقر
تاريخ النشر الثلاثاء 29-يناير-1974
مشاهدات 15
نشر في العدد 185
نشر في الصفحة 23
الثلاثاء 29-يناير-1974
رضا الناس غاية لا تدرك
رحم الله الإمام عبد الرحمن بن بطة الحافظ فقد أدرك هذه الحقيقة، وقال يصف حاله مع أهل زمانه: «عجبت من حالي في سفري وحضري، مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقًا أو مخالفًا دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله والشهادة له. فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك - كما يفعل أهل هذا الزمان سماني موافقًا، وإن وقفت من حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفًا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجيًّا، وإن قرأت عليه حديثًا في التوحيد سماني مشبهًا، وإن كان في الرؤية سماني سالميًا، وإن كان في الإيمان سماني مرجعًا، وإن كان في الأعمال سماني قدريًّا وإن كان في المعرفة سماني كراميًّا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيًّا، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيًّا، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريًّا، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيًّا. وإن أجبت بتأويل سماني أشعريًّا، وإن جحدتهما سماني شفعويًّا، وإن كان في القنوت سماني حنفيًّا، وإن كان في القرآن سماني حنبليًّا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار -إذ ليس في الحكم والحديث محاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.
ثم أعجب من ذلك أنهم يسمعونني فيما يقرءون على من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يشتهون من هذه الأسامي، ثم قال -رحمه الله تعالى: «ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره».
ثم بين أن في محاولة إرضاء الناس ومداهنتهم إغضاب الله قال «ولن يغنوا عني من الله شيئًا».
وفي الختام بين سبيله ومنهجه تجاه الفرق والآراء فقال: «وإني مستمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم».
نعم أن إرضاء البشر شيء ليس في الإمكان، ذلك أن علمهم قاصر، وعقولهم محدودة، يعتورهم الهوى والنقص، ويتفاوتون فيما بينهم تفاوتًا بينا في الإدراك والفهم، فكيف ترضيهم؟.
ويذكرني هذا بما يتناقله العوام من قصص ترمي إلى هذا المعنى فمن ذلك أن رجلًا بنى منزلًا واختار بابه إلى جهة الشمال فنصحه رجل أن يحوله إلى الشرق ولما مر به آخر حبب اليه أن يجعله إلى الجنوب بينما أخذ رجل رابع يدلل له على أن أفضل الجهات هي الغرب.
وذلك الرجل الذي ركب حماره تاركًا ابنه يمشي من خلفه فلامه أول من لاقاه متهما إياه بخلو قلبه من الشفقة على ابنه، فلما أركب ابنه ونزل يمشي اتهم رجل آخر الابن بعقوق والده وعدم بره به إذ يركب والأب يمشي، فلما ركبا الحمار سويًّا، تألم آخرون لحال الحمار المسكين الذي حمل فوق طاقته، فنزلا يمشيان، وتركا الحمار يسير وحده فمر آخر فرماهما بالجنون إذ نزلا عن الحمار وتركاه خاليًا، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾.(المؤمنون: ٧١) وحين يقول: ﴿وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾.(الأنعام: ١١٦).
وصدق الشاعر إذ يقول:
ولست بناج من مقالة طاعن *** ومن ذا الذي ينجو من الناس سالمًا
ولو كنت في غار على جبل وعر *** ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
أما إرضاء رب الناس فهو الممكن وهو الواجب، إذ سبيله واحد ودينه واحد، ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ﴾. (الأنعام: ١٥٣)
ومن حاول أن يرضى الناس بإغضاب الله فإن الله يغضب عليه ويغضب عليه الناس يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: «من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس».
وبالتالي من أرضى الله بسخط الناس -رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والله المستعان.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل