; نهاية الحلقة الثانية وبداية الحلقة الثالثة.. القابضون على الجمر | مجلة المجتمع

العنوان نهاية الحلقة الثانية وبداية الحلقة الثالثة.. القابضون على الجمر

الكاتب محمد أنور رياض

تاريخ النشر الثلاثاء 17-سبتمبر-1974

مشاهدات 14

نشر في العدد 218

نشر في الصفحة 29

الثلاثاء 17-سبتمبر-1974

في السجن.. ومن خلال القضبان..كانت السماء تبدو دائمًا مقسمة إلى مربعات!!.. النجوم تتناثر هنا وهناك مثيرة تارة.. ومظلمة أخرى.. تخشبت جنباته من أثرالبرش ورأسه متوسدة حذاءه.. والباب.. دائمًا مغلق.. ودلو في ركن «الزنزانة».. تفوح منه رائحة البول المتخمر!! و فراغ ممیت وظلام حالك لكن الألم كان دائمًا في القلب.. بين الضلوع..!! اللحظات لها حد مسلول.. كل لحظة بأثر.. السجين يعيش بالأمل.. غذاؤه.. حياته.. بالأمل.. غدًا.. غدًا يا «نوال» سيأتي الفرج.. غدًا أحدثك كثيرًا.. وكثيرًا.. سيصبح العذاب حكاية.. غدًا يا نوال تبتلع أرضنا الريانة كل الأفاعي.. وزارعي الأحقاد.. غدًا يا نوال.. ولكن.. ولكن.. لم يأذن الله بعد يا «علي».. الغالي لا بد أن يكون ثمنه غاليًا.. تجلد يا «علي».. البقية في حياتك!! - الشيخ عبد الفتاح.. - والدي؟؟ - إنا لله وإنا إليه راجعون.. أجل مكتوب. الرجل الطيب مات یا «نوال».. ثم.. أخبارك أيضًا.. ماتت.. لم ينعها إلى أحد.. وإنما نعت نفسها بنفسها!!..كل شيء بدأ ينحدر.. الآمال كالجدار تتداعى عندما تسقط بعض لبناتها.. وأخيرًا.. أخبروه.. إنها تزوجت..!! بدا متجلدًا.. ولكنه كان الوحيد الذي يسمع صوت هدير قلبه.. منك الصبر يا رب.. منك العون يا رب وكل شيء عندك بمقدار.. سبع سنوات يا عمي.. سبع سنوات! كل لحظة بأثر.. ذهب عزيز الأمل.. ولكن.. ولكن هل ذهب الوجع؟!! لا تحزن یا «علي»؟! تقول: لا تحزن يا «علي».. هل يصلح الحزن مقياسًا للوجع؟؟.. لولا الإيمان لتصدع الجبل.. أفاق على توقف السيارة.. وهمسة من عمه.. - «نوال» هنا.. عندها بعض التعب أكمل جملته بقبضة من يده على ذراع «علي» وفي المدخل.. كان اللقاء.. لحظة طالما أشعلها الخيال.. وذكاها حرمان السجين.. کانت ترد على فترة خواطر الانتقام.. وممن الانتقام؟!.. الطابور طويل.. طويل.. هل أنت الجانية؟؟.. أم المجني عليك يا «نوال»؟؟ قتل الملل الحماس.. سهر الليالي.. وظلمة السماء.. وسيل العذاب.. والنفوس.. النفوس لا تسترها القضبان..!! تمزق القلب يا «علي».. فنضج العقل.. دروب الحكمة..كانت الثمن..!! كانتا هناك.. في عمق القاعة.. الأم في المقدمة بالغريزة.. كأنما تتصدر بنتها لتحميها من شيء مجهول..!! المخ يبحث في جنون عن تعبير للمسافة!.. بالأمس كان يمكن أن تحدث الكارثة.. ولكن السائق تعلم كيف يحكم سيطرته على عجلة القيادة.. حتى وهو منشغل بفكره.. بداخله كانت البراكين والزلازل تجتاح قلبه.. ولكن وجهه كان جامدًا.. بلا حياة..!! دارت الدنيا.. وتغيرت تضاريس مخه.. ودب الشيب في رأسه.. ولكن شيئًا ما أمسك بصورتها القديمة في إصرار عنيد!.. ينكر الإنسان دائمًا أن يتغير غيره.. في دنيا سنتها عدم الاستقرار!! تغيرت الألوان في عينيه.. هبط بنظره.. فوجد بطنه منتفخًا.. تحولت الحمم إلى ثلوج!! شيء اسمه الأمر الواقع..!!! أين الفورة؟؟.. النواميس تمارس عملها.. غير مبالية بأي شيء.. كل شيء تغير يا «علي».. كل شيء..! البداية كانت ليلة معتمة في شهر كئيب.. ولكن.. ليكن.. ضاع عزيز الأمل.. لیكن.. من كان يتوقع كل ما مر بك؟؟ فوق الخيال والقصور.. وقد كان.. لن يكون هناك أسوأ مما كان.. لتكن يا «علي» مثل الكرة.. يضربونها.. فتقفز!. لیكن كل ما كان.. ولكن.. ستبقى صورتك في تلافيف المخ یا «نوال».. صورة للأمل الذي مات.. لعل الله يبعث فيه الحياة.. صورة لمجتمع جديد.. وإنسان جديد.. تصورناها معًا.. يومًا ما..! - حمدًا لله على السلامة يا «علي» حتى الصوت.. بدا وكأنه أنين صادر من تحت الأنقاض.. أجسام غريبة تقتحم نفسه.. كل ذرة في کیانه تدافع باستماتة.. لا.. لا يا «علي».. لقد انتهينا من هذا الموضوع.. لا بد من التسليم.. تماسك.. جمع ما استطاع من شتات نفسه.. كمريض على وشك الشفاء.. جلس بينهم على مائدة الطعام..!! وضع «علي» وجهه، طبقه يحاول سد المنافذ على فكره المشتت بدت «نوال» منطفئة مجهدة.. لا تبالي إلا بتعبها.. نسيت ولا شك.. كان الرباط أقوى في نفسه؛ لأنه كان الأكبر.. ولأنه كان وسيم المستقبل ويحلم.. وكانت صغيرة.. تسمع وتتجاوب.. مبهورة بمنطقه وتأثيره.. وكانت تلك أيضًا هي رغبة الجميع.. فلما ذهب.. وقعت تحت تأثير أمها.. التي استخدمت كل حيلها.. حتى سيطرت على بنتها تمامًا.. ثم كانت التجربة التي أرادتها لها.. زوج من إياهم.. كما تصورت ورسمت أمها بالضبط.. «عصري».. ولأن «العصرية» سلاح ذو حدين.. أو بمعنى أصح شيء تحكمه المصلحة أولًا وأخيرًا.. فقد قطف «العصري» الزهرة.. ثم.. ما الذي يمنعه من الاستمتاع بالدنيا.. أليست الحياة قصيرة؟؟.. والزواج قيد.. وخصوصًا إذا كانت الزوجة صغيرة.. مدللة.. والأنكى من ذلك منقادة إلى أمها.. هل ينفق عمره في تعليمها.. وتعويدها على طباعه كما تقول محررة في باب: اسأل وأنا أجيبك؟!!.. أبله إن فعل!!.. فليكون النكد لها.. والحياة من نصيبه.. يومًا معه.. وعشرة عند أمها.. و.. وذبلت الوردة.. في بطنها جنين. العم الطيب يجلس على قمة المائدة.. يرحب بابن أخيه.. يحبه.. كان «لعلي» دائمًا الحظوة في نفسه.. رجل في كل شيء.. يقول لأصدقائه- سرًا طبعًا- لدينا رجل وقف ضد الثورة.. أخذوه في الفجر.. شرحوه بالسياط ، ورث عزم الحديد عن أجداده..!! وعندما يكون الرجل رئيسًا لمجلس إدارة.. وقمة المسئولية في قطاعه.. يصير شديد التعقل والحكمة أمام الغرباء!!.. فلا يتكلم إلا همسًا. ولا بأس من أن يكون له ابن أخ مثل «علي».. دفع ضريبة شبابه في السجن ليدرك من يهمه الأمر: أن رئيس مجلس الإدارة- وإن كان مسايرًا للتيار العام- إلا أنه ولا شك عنده عرق ينبض بالمقاومة ضد «انحرافات» الثورة!! و «علي» عضو في الأسرة الكريمة.. أسرة عمه عبد المنعم.. الذي قام بالواجب.. وأسقط التكليف عن بقية أفراد الأسرة.. ألا يكفي أن يكون في كل أسرة رجل مكافح؛ ليثبت وجودها ولذا كان «عبد المنعم بك » يشعر بالسعادة والفخر وهو يحكي لخاصته ما عاناه ابن أخيه «البطل».. كأنه يقول: نحن كافحنا ضد الظلم.. فهل فعلتم مثلن؟؟ الأم تجلس.. قلقة.. وإن علمتها طبيعة الأنثى، كيف تتظاهر بالعكس!!.. كانت دائمًا قلقة ذلك اللقاء.. تفكيرها يتجه نحو الزاوية «العملية» من الموضوع. أهم باعث على القلق لا بد من أن يكون سؤالًا!.. هل يشمت «علي» في حظها المهدر؟؟.. اختلست نظر من تحت ملعقتها.. لا يبدو عليه أي انفعال.. صفحة الوجه متجمدة.. وإن نطقت قسماته بخبرة الشيوخ!! هي لم تفعل شيئا سوى أن مارست حقها.. من كان يعلم الغيب؟؟ من يلومها على فعلتها؟؟ لقد أرادت مصلحة بنتها.. هل كان يجب أن تنتظره سبع سنوات؟؟.. ثم.. إنه ما زال تلميذًا.. صحيح أنه في السنة النهائية.. ولكن لم يحصل على الشهادة بعد.. ثم لا زال أمامه.. شوط طويل.. حتى يصبح قادًرا على «فتح» بيت - كما يقولون- لا.. الآن هي أشد اقتناعًا بما فعلته.. لولا الحظ التعس. التقت عيناهما.. زوجة رئيس مجلس إدارة بحق يا امرأة عمي.. فن الديكور مقياس حقيقي لقيمة الإنسان.. الملوك كانوا دائمًا يستعملونه.. منذ قرون قبل الميلاد وعند الفراعنة والشعر المستعار.. إلى تيجان الذهب.. وهالات اللآلئ.. وكل الروافد تصب في المجرى الأصلي.. النظرة.. الحركة.. الانفعال.. بالأمس عبدوا الحجارة.. واليوم يعبد الإنسان ذاته. - عذبوك كثيرًا.. يا «علي»؟ قالتها زوجة عمه بداية معركة.. سؤال عفوي ولا شك يا امرأة عمي.. ولكن الحية تتحرك بين جنبيك.. إني أراها..! صاح العم في لطف غاضب: - يا شيخة؟؟ وهل هذا وقته؟! اقتلعته من مكانه بنظرتها.. حاول «علي» أن يتكلم عندما سمع صوت إعصار يدخل من الباب. - غير معقول.. «علي»؟؟ في خفة كان «حمادة» يلقي بكتبه.. ثم يندفع نحو «علي» يحتضنه. - حمدًا لله على السلامة يا «علوه» «علوه» مرة واحدة؟.. أضعت الوقار مرة واحدة يا ولد!! قالها العم مجاملًا.. ولكن لننتظر حتى نرى هل صرت قد الكلام أم لا؟؟! - كبرت يا حمادة.. صرت رجلا - هوه.. هوه.. صح النوم يا أستاذ.. أنا أصبحت باشمهندس.. ولكن مع إيقاف التنفيذ!! ضحكوا جميعًا.. فأكل «حمادة» في نفس اللحظة.. - وخذ عندك يا سيدي.. رئيس فريق التمثيل بالكلية.. وعضو لجنة الرحلات.. ولاعب دولي في الاسكواش.. ثم.. عضو في الاتحاد العام.. ما رأيك الآن؟؟ الأم وجف قلبها.. فقد حدثتها نفسها بأن ابنها ستصيبه «العين» لا محالة.. أما الأب فبدا غير مبال.. وإن ظهرت بعض آثار الامتعاض على وجهه..!! أما «علي».. فقد لفت مخه عاصفة سريعة..كدوامة هوائية هبت فجأة.. لاعب دولي.. وتمثيل.. ورحلات.. واتحاد عام.. هل هذا نوع جديد من التداخل في أسلوب التربية؟ كان الاتحاد أيامنا يقود معركة القناة يا «حمادة».. هل تدري عما تتحدث يا بني؟؟ - وكيف توفق بين هذا كله؟! اتجه «حمادة» نحو المائدة، وجذب كرسيًا في خفة وشرع يتكلم وهو يأكل بلذة وزهو. - هذا سر المهنة؟.. شيء اسمه «الفهلوة»؟!! .. « فهلوة »؟!! أمن العصور الغابرة أنت يا «علي».. الدنيا استدارت یا «علي».. أيامكم كان الاتحاد سياسة وهمومًا.. وقتالًا.. و.. دمًا.. كانت الهندسة قلعة.. المظاهرات كانت تخرج دائما من الهندسة.. الجلاء.. الجلاء.. الحرية بالدماء.. الهدير.. شتاء الاسماعيلية بارد.. العيون الزرقاء تلمع وسط الوجوه الحمراء المحتقنة.. كلاب الحراسة تنبح.. و.. طلبة الجامعة يتسللون.. أما اليوم.. اليوم؟؟.. هل انتهى كل ذلك.. بتلك البساطة.. تمثيل واسكواش ونزهة إلى الاتحاد العام وانتهى دور الجامعة هنا.. لا شك في أن أمانيك تحققت کلها يا مصر.. وآن الأوان للترف.. والاسترخاء.. - تأخرت يا ولدي؟! قالت الأم متلذذة بمعاتبة ولدها.. ثم لتفتح بابا آخر للحديث فلربما أخزت العين عن وحيدها..!! قال «حمادة»- وهو يتوجع من داهية ألمت به-: - ما العمل يا ماما.. المدرب رجل سخيف.. دكتاتور.. أصر على تكملة التمرين..!! اهرب یا «علي».. انهض يا «علي».. القرية مليئة بالثقوب.. إنني أهوى.. لا شك أنه يوم تعيس.. حتى «حمادة».. تغير.. الولد الصغير.. الطفل البريء المتوقد بالذكاء كان يرافقه كثيرًا إلى «الشعبة».. حيث كان الإخوان يتبارون في مداعبته.. ويخصونه بعنايتهم في دروس خاصة للأطفال.. كانوا يسمونهم الأشبال.. وكان الأمل كبيرًا في جيل من الشباب المسلم.. ولكن.. لا يمكن أن تنقلب الصورة إلى النقيض هكذا وبمنتهى البساطة.. أنقذه عمه من نفسه: - تعال يا «علي» اختلى به.. - أريد أن أطمئن على أحوالك كلها- إن شاء الله- تخلص البكالوريوس هذا العام؟ - طبعًا.. إن شاء الله. سأستأجر لك شقة أنت والوالدة.. وكل ما أريد أن أطمئن عليه.. هو ألا تشتغل بالسياسة.. أنت تعلم أني تعهدتك بالضمان..!! قفزت إلى ذهنه صورة «حمادة».. اطمئن يا عمي «فالزفة» كاملة.. ولا موضع لقدم.. ملئوا الفراغ.. بفراغ.. أليست تلك معجزة!! - هذا مفروغ منه.. - إن شاء الله لنا لقاء آخر بعد أن تستجم وترتاح.. فأنا في شوق لأن أعرف بالتفصيل كل ما حدث لك. ما حدث لي؟؟ وما الفائدة يا عمي الزرع لا ينبت في أرض خراب.. أنت طيب.. طيب يا عمي.. ولكن نهايته.. ثم انصرف على لقاء.. في الطريق قابل حمادة. - بدري يا «علوه».. أريد أن أجلس معك.. عندي كلام كثير.. أود أن أحدثك فيه إنني أكثر شوقًا للحديث معك یا «حمادة».. أريد أن أستكشف ما تحت الطلاء يا أخي الصغير!.. هل تغيرك أصيل؟ أم أنت نموذج مصنوع بجودة..؟! أم.. أم أصابك ما أصاب الناس كلهم عندما ظنوا أن النظافة لا تكتمل إلا بغسيل المخ؟!! أريد أن أتأكد.. هل ضاع الأمل حقيقة يا «حمادة»؟! لطالما أخذتك معي في رحلاتنا إلى الجبال.. ودروسنا في «الشعب».. ولعبنا معًا.. كنا نظن أن جيلا من «الفدائيين» لا يستطيع أن يحل مشاكل مصر.. وكان الأمل في جيل قادم.. كنا نعده.. لكي يعيش حياة المعارك.. في خشونة الجنود.. وزهد العباد وأنت..؟؟ وأنت هنا يا حمادة تتحدث عن «الإسكواش» والمدرب.. والتمثيل.. وهم.. هناك ألا تراهم..؟! اليهود.. التتار.. الجدد.. يبنون في الصحراء.. ويقيمون الحديد والمستعمرات.. ويخططون لساعة يجتاحون فيها كل شيء..!! وددت لو عرفت يا أخي الشاب.. ما الذي فعلوه بك.. حتى أصبحت.. هكذا ؟!!
الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الثَور الأبيَض

نشر في العدد 2

42

الثلاثاء 24-مارس-1970

النصر الأعظم

نشر في العدد 10

32

الثلاثاء 19-مايو-1970