; «المقاومة الإسلامية» استفادت من الجغرافيا وأخطاء منظمة التحرير.. | مجلة المجتمع

العنوان «المقاومة الإسلامية» استفادت من الجغرافيا وأخطاء منظمة التحرير..

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 02-ديسمبر-1997

مشاهدات 13

نشر في العدد 1278

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 02-ديسمبر-1997

هل تنسحب «إسرائيل» بغير شروط من جنوب لبنان؟

هل تنجح المقاومة فيما فشلت فيه الدبلوماسية وتعجز عنه الجيوش النظامية؟ ما دور المقاومة في المعادلة السياسية؟ وهل تنتهي بانتهاء دورها في تحرير الجنوب المحتل؟ أسئلة ترد ويأتي غيرها متناسلًا من الأولى، لكن الأجوبة غامضة أو ناقصة، فلا أحد يريد استباق الأمور قبل الأوان، خشية افتعال أزمات ومعضلات، ليس هذا وقتها الملائم.

المقاومة الشعبية، أو حرب العصابات غير النظامية، تنحصر اليوم في طرف سياسي واحد هو حزب الله ذو القاعدة الواسعة بين الشيعة اللبنانيين، وإن لم يكن حزب الله الأول في الميدان فالمقاومة الحالية ورثت كثيرًا من أساليبها وتكتيكاتها من منظمة التحرير الفلسطينية التي أقامت في لبنان دولة داخل دولة، وكانت تتولى الإشراف مباشرة على قواعدها العسكرية في الجنوب اللبناني، لكن «حزب الله» طور كثيرًا من الأساليب الخاصة به، واستفاد من الأخطاء التكتيكية السياسية والعسكرية التي وقع فيها الفدائيون الفلسطينيون.

 لقد غلب ياسر عرفات السياسي على العسكري، وأخضع الثاني لمقتضيات ومتطلبات الأول، مما يفسر نشوء طبقة بيروقراطية انتهازية، تتاجر بالقضية والشهداء لأهداف آنية وسريعة.

مع الوقت، أصبح صاروخ الكاتيوشا هو السلاح الفلسطيني المفضل، وصار بديلًا عن حرب عصابات طويلة الأمد.. تخلت منظمة التحرير عن أسلوب المقاومة الشعبية، واندرجت في سياق الجيوش، فاستوردت المدافع الثقيلة والمدرعات والدبابات مع فارق التقنية والتدريب عن العدو المتفوق في هذه المجالات بما لا يقاس والنتيجة معروفة، فقدت منظمة التحرير الساحة اللبنانية- وهي كانت مثالية- وتشرد القادة والكوادر في منافي العرب، قبل أن تصل بهم السبل إلى الاستسلام ونبذ الكفاح المسلح جملة وتفصيلًا، واستبدال غزة وبعض قليل من الضفة الغربية بفلسطين.

أما في لبنان فقد تواصل النهج الذي ابتداه الفدائيون الفلسطينيون وإن تغيرت الأسماء والبيارق، وتطورت الأساليب والطرق والخطط ظهرت المقاومة الوطنية اللبنانية غداة الاجتياح الإسرائيلي الأوسع نطاقًا للبنان عام ١٩٨٢م، وبتأثير ضرباتها المتتالية، انسحب العدو على أكثر من دفعة من بيروت، ثم من الجبل القريب ثم من صيدا والنبطية، ووقف في شريط محتل ضيق مزروع بالتحصينات والقلاع في التلال المشرفة والممرات الجبلية الوعرة، وفي ظن قادة العدو، أن تلك هي الطريقة الأنسب للدفاع عن المستعمرات الصهيونية شمالي فلسطين المحتلة وضمان المصالح الإسرائيلية المباشرة في مياه لبنان، في آن معًا.

وبعد سنوات قليلة على ظهور المقاومة الوطنية، أدت التطورات السياسية والأمنية في لبنان إلى انحسار المشاركة في المقاومة من جانب اليساريين والقوميين وانحصار العمل المقاوم بطرف واحد هو حزب الله، الذي يتلقى دعمًا إقليميًا واضحًا، ساعده على تنمية قدراته القتالية، لا سيما من سورية، وإيران، وأصبحت المقاومة ضد إسرائيل حكرًا على المقاومة الإسلامية، التي تستوعب المقاتلين الإسلاميين الشيعة، من مناطق الجنوب والبقاع، ومن العاصمة بيروت، قبل أن يعلن عن تشكيل سرايا للدفاع بتشكيلة أوسع.

مميزات

بم تتميز مقاومة «حزب الله» عن المقاومات السابقة؟

نقطة الانطلاق الأولى والأهم هي أن هذه المقاومة تتحرك في بيئتها الاجتماعية الطبيعية ففي القرى والدساكر، حيث يرابط المقاتلون في أمكنة سرية وغير ثابتة، يعيش أقارب المقاومين وأصدقاؤهم وأنصارهم، وهم يتلقون التشجيع والدعم المستمرين، يضاف إلى ذلك أن هؤلاء المقاتلين من مشارب عقائدية تتوافق مع عقائد عامة الناس هناك، وقد ازدادت شعبية المقاومة خارج إطارها التقليدي، حتى اخترقت طوائف أخرى ومناطق بعيدة نسبيًا، ويمكن القول إن هناك شبه إجماع وطني يؤكد على مشروعية المقاومة، وهذا لم يكن سهلًا الحصول عليه، بل هو خلاصة جهود متواصلة من الاتصالات السياسية الدؤوبة والدعاية الإعلامية المكثفة، ولم يكن ذلك ممكنًا، لولا النجاحات العسكرية المتعاقبة التي تحققها المقاومة يومًا بعد يوم ولولا روح النضال والمعنويات المرتفعة للمقاومين والسكان معًا.

المقاومة وحدها

لكن السؤال الذي لم يكف عن التردد طوال السنوات العشر الماضية هل تقدر المقاومة وحدها على دحر الاحتلال من دون مفاوضات سياسية، ومن دون معاهدة سلام على غرار ما حصل في كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل؟

كان السؤال محيرًا، وكان الجواب صعبًا وغير جازم، فقد كان الانسحاب الإسرائيلي من كامل الجنوب المحتل من الإمكانات المحتملة، لكن لم يكن يومًا حتمًا مقضيًا، وأتت التطورات الأخيرة من فشل الإنزال الإسرائيلي بين صيدا وصور في منطقة أنصارية، ثم العملية المركبة ضد مواكب القيادات العسكرية الإسرائيلية قرب الحدود، لتصب الملح على الجرح، وتسقط دبابة «ميركافا» بعد أخرى  بصواريخ موجهة عن بعد، وهي الدبابة التي يفتخر بها الإسرائيليون على أنها الأكثر تحصينًا وتدريعًا على الإطلاق، وهي المجهزة بأحدث الوسائل الإلكترونية، والأهم من ذلك أن المقاومة قد تمكنت من زعزعة جسم العملاء، وخلخلة تنظيمه إلى حد بعيد، حتى لم تعد إسرائيل تثق بعملائها، ولا برؤوس مشهورة منهم، بل إن قوات الاحتلال اتخذت مؤخرًا إجراءات مشددة للحد من تحرك العملاء داخل الشريط المحتل، وصارت تحرص على إخفاء المعلومات الأمنية والعسكرية عنهم مخافة تسربها إلى المقاومة، أما شبكات العملاء خارج الشريط والتي كانت تغذي استخبارات العدو بالمعلومات اللازمة عن مواقع وعناوين المقاومين وأساليب عملهم العسكري والتعبوي، فقد تعرضت في الأشهر الماضية إلى ضربات ماحقة، فحرم العدو من العلم والخبر، وصار يتصرف في لبنان كالأعمى، الذي لا يدري أين يتوجه أو كيف يعمل. 

مجموع العوامل السلبية بالنسبة لجيش الاحتلال، ألقى بظله الثقيل على الرأي العام الإسرائيلي، فنشأت حركات نشطة تدعو إلى الانسحاب من جنوب لبنان بالتنسيق مع بيروت ودمشق، أو من دون التنسيق معهما، فالمهم هو حماية الشباب الإسرائيلي من المستنقع اللبناني وراجت معلومات داخل وخارج الشريط المحتل أن القرار قد اتخذ في «إسرائيل» بالانسحاب من جنوب لبنان، وقاد ذلك إلى تكاثر عمليات القرار في جيش العميل أنطوان لحد، وإلى إبداء عدد كبير من العملاء رغبته في التوبة والتعاون، وهكذا ترتفع أسهم سيناريوهات الانسحاب من لبنان داخل المجتمع الإسرائيلي، وتتراوح بين انسحابات كاملة أو جزئية بشروط أو بدون شروط.

سيناريو الانسحاب

أحد تلك السيناريوهات، يؤكد أن الانسحاب الإسرائيلي إلى الحدود الدولية، ولو بدون شروط سوف يسمح بهامش حركة أكبر، فمن الحدود يستطيع جيش الاحتلال توجيه ضربات أقسى بكثير تطول المدنيين والمقاتلين على السواء من دون ضرورة الالتزام بتفاهم نيسان المعقود بين لبنان و«إسرائيل» برعاية فرنسا والولايات المتحدة عام ١٩٩٦م، والذي يطلب من العدو والمقاومة تجنب المدنيين في سياق عملياتهم العسكرية ويقيد التفاهم المذكور حركة الجيش الإسرائيلي أكثر مما يعيق حركة المقاومة، ثم إن القيود الأمنية والسياسية التي تفرضها حقائق المعادلة الإقليمية، جعلت المقاومة الإسلامية تتفوق تكتيكيًا على دوريات العدو ومواقعه المعزولة في جنوب لبنان، وهو ما حرم إسرائيل الاستفادة الكاملة من تفوقها الكبير، ويرى أنصار الانسحاب الكامل من جنوب لبنان، أنه بات لزامًا تغيير قواعد اللعبة عن الأساس، وإفساح المجال أمام العسكريين للتحرك بحرية من دون ضوابط أو كوابح سياسية، ومعلوم أن من أساليب الردع الإسرائيلي ارتكاب الجرائم من دون تمييز لضرب البنية الاجتماعية للمقاومة، وليس فقط الجسم العسكري، ويأمل أصحاب هذا السيناريو كسب الرأي العام العالمي مجددًا، في حرب مزعومة ضد الإرهاب، إذ سيقول العدو حينها إن الإرهابيين اللبنانيين يستهدفون الحدود الدولية المعترف بها عالميًا، ومن حق المعتدى عليه حسب هذا المنظور الدفاع عن النفس بالطريقة التي يراها مناسبة.

انسحاب الفشل

لكن سيناريو معاكسًا يرى نتائج مختلفة، فيما لو انسحب جيش الاحتلال من دون ضمانات ولا معاهدات سلام، ذلك أن الفشل الذريع داخل الشريط المحتل أمام أساليب متطورة من حرب العصابات، قد ينسحب أيضًا إلى الحدود، وتفشل إسرائيل في وقف اختراقات المقاومة للحدود باتجاه المستعمرات الشمالية، وسقوط خط الدفاع الأول ينبئ بسقوط الخطوط التالية، وإذن لا حل يكمن في مقولة الانسحاب، بل الحل- حسب هذه الرؤية- موجود في مكان آخر، وبقاء الاحتلال في الشريط ولو كان مكلفًا بشريًا وماديًا، أقل كلفة بالتأكيد من الخيار الآخر.

محاذير أخرى

وهناك محاذير أخرى للانسحاب غير المشروط حسبما يرى معارضو هذه الخطوة، إذ ستكون تلك سابقة لا مثيل لها في المنطقة، فلم يحدث أن استعادت دولة عربية أرضًا سليبة عبر المقاومة الشعبية، وما حصلت عليه مصر في سيناء كان بمزاوجة معقدة بين الحرب النظامية والمفاوضات العسيرة، ولم يتم تحرير سيناء بالكامل إلا بشروط وضوابط كثيرة، لعل أخطرها إخراج مصر من المعادلة، وترك العرب ومصيرهم، فرادى وزرافات، إن نجاح المقاومة الإسلامية في لبنان في تحرير جنوب لبنان سوف ينعش الآمال في كل مكان، وتحديدًا في فلسطين المحتلة، خصوصًا أن حكومة إسرائيل لا تريد التخلي إطلاقًا عن مدينة القدس ولا عن أجزاء كبيرة من الضفة الغربية تصل إلى ٦٠ من مساحتها، وهناك مكان مثالي لحرب عصابات مماثلة، قد تكون أعظم كلفة وخطرًا بكثير، نظرًا لأنها ستعمل في قلب الكيان المحتل.

بإيجاز إن السيناريو المشار إليه يحذر من الانسحاب غير المشروط، ويتبناه على ما يبدو رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، وبعض قادته العسكريين، وطبقًا لهذه الرؤية يجب التفتيش عن وسيلة ما لكبح عمليات المقاومة وإذا كانت المواجهة الميدانية غير مجدية والانتصار على حزب الله مستحيل حسب تعبير العدو نفسه، فمن الممكن توجيه الضغوط على الدول التي تدعم المقاومة، ومنها الدولة اللبنانية، وفي المستطاع تسخير واشنطن حتى تتولى بنفسها التحريض في العالم، ضد ما يسمونه بالمنظمات الإرهابية.

دور في المعادلة

ويشتق سؤال آخر بديهي، يتعلق بالجانب السياسي للمقاومة المسلحة، لأنه من المعروف أن المقاومة الإسلامية هي الوجه العسكري لتيار سياسي عريض له حلفاء وأصدقاء في الوسط السياسي اللبناني، حيث يلتقي حزب الله ويختلف مع أطراف عدة، على نقاط محددة في الرؤية السياسية الشاملة، وفي التفاصيل الجزئية، ولا سيما أن الحزب المذكور له نواب نشطاء في المجلس اللبناني، في هذا المستوى يحاول أرباب السلطة الإيحاء بأن المقاومة حالة عارضة عسكرية كما هي سياسية، وفور انسحاب العدو من الأراضي المحتلة، لا يعود ممكنًا بقاء الجسم السياسي المعروف به حزب الله على أساس أن لبنان لا يقبل استيعاب حركة أصولية تهدف إلى إقامة دولة إسلامية. 

والواقع الأقرب إلى المنطق هو أن المقاومة تمثل مشروعًا سياسيًا متكاملًا يتعارض بآلياته وتصوراته وأهدافه مع مشروع الإعمار الذي يقوده رئيس الحكومة رفيق الحريري، فهؤلاء مع دولة العدالة الاجتماعية، و«مجتمع المقاومة»، وهو مع دولة السوق المفتوحة، والانفتاح الشامل على منتجات الغرب الثقافية والاجتماعية والسياسية، وهكذا يتعايش مشروعان متناقضان في العمق، وإن تكاملا في ظل الظروف الإقليمية المعقدة، حيث لا تسوية ولا تطبيع، ولا شيء من هذا القبيل.

ومن الثابت في الحياة السياسية اللبنانية أن حزب الله بما يمثل من رأس حربه لمقاومة العدو، يبقى محط أنظار الهيئات والقوى والأحزاب التي تعارض الحكومة الحالية، لأن التحالف مع ذلك الحزب الأكبر والأقوى، يمكن أن يقلب موازين القوى، لكن الوقائع تشير إلى أن حزب الله يؤثر الهدوء في تعامله السياسي الداخلي، حماية لخيار المقاومة من التلوث في أو حال النزاعات على السلطة، وحصص النفوذ لذلك يبدو الحزب أحيانًا في مظهر المهادن للحكومة العقلاني أكثر من العادة واللزوم. 

والخلاصة أنه من الخطأ الاعتقاد بأن المقاومة الإسلامية ستنتهي بانتهاء الاحتلال بمعنى تصفية بنيتها الاجتماعية والسياسية والإعلامية، فالانسحاب لو تم لن يكون نهاية المطاف والصراع على أي حال مفتوح على المدى الواسع، ولا أحد يستطيع وضع  تاريخ محدد له.

 

الرابط المختصر :