العنوان «حزب الحرب » يجدد الصراع في كاراباخ
الكاتب د. حمدي عبد الحافظ
تاريخ النشر الثلاثاء 03-مارس-1998
مشاهدات 26
نشر في العدد 1291
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 03-مارس-1998
- روسيا تدعم تيار التطرف بقوة.
- شحنات سلاح سرية لتمكينهم من تنفيذ مخططاتهم.
- عزل رئيس أرمينيا عقابًا له على تصريحاته المؤيدة للحل السلمي وتنصيب متطرف من كاراباخ مكانه.
اتخذ النزاع المحتدم منذ عشرات السنين بين أرمينيا أذربيجان بسبب إقليم «كاراباخ» منحنيات جديدة تنذر بأبعاد خطيرة، لا على الرقعة التي تحتلها الدولتان فحسب وإنما على وسط وشمال وسط آسيا كلها، خاصة بعد أن تمكن المتطرفون الأرمن من إعلان جمهورية مستقلة في کاراباخ، ثم امتد نفوذهم بعد ذلك ليسيطروا على مقاليد الحكم في أرمينيا نفسها، بتنصيب أحد المتطرفين من كاراباخ رئيسًا لجمهورية أرمينيا بالنيابة وإرغام الرئيس الفعلي للبلاد على الاستقالة، وإعلان انتخابات رئاسية مبكرة في السابع عشر من الشهر الجاري والتي تلوح بوادر فوز القوميين الأرمن المتطرفين بها.
ولنبدأ برصد تطورات الصراع بين أرمينيا أذربيجان تاريخيًا وسياسيًا واقتصاديًا.
تقع منطقة كاراباخ رسميًا ضمن أذربيجان، وبالتحديد في شطرها الغربي على مقربة من الحدود مع أرمينيا، وتبلغ مساحة المنطقة ٤٤٠٠ كم مربع، أما عدد سكانها فيبلغ ۱۸۲,۲۰۰ نسمة «حسب إحصاء عام ١٩٨٨ » ويشكل الأرمن البالغ عددهم ١٤٣ ألف نسمة ٧٨٪ وأطلقت على كاراباخ الجبلية أسماء مختلفة في فترات مختلفة من تاريخها الحافل والمديد، ففي النصوص المكتوبة بالخط الإسفيني ورد اسم «أورتيحي- أورتيحيني» الذي كان يستخدم في أورارتو ليعني اسم منطقة كاراباخ، أما اسم المنطقة الحالي فقد ورد في المصادر التاريخية للمرة الأولى في القرن الرابع عشر حسب التسجيلات المكتوبة وذلك في كتاب «سجل يوميات جورجيا» لدى المؤرخ الفارسي حمد الله قزواني، ونشأ مصطلح «كاراباخ» على الأرضية الفارسية فهو يعني «الحديقة السوداء» أما الأرمن فأطلقوا على هذه الأرض اسم «ارتساخ».
وبموجب الدليل الجغرافي الأرميني الذي كان قد صدر في القرن السابع بعد الميلاد كانت «ارتساخ» تعتبر المقاطعة العاشرة في أرمينيا، وكانت المقاطعة مقسمة إلى ١٢ منطقة .
وفي القرون الوسطى احتفظت كاراباخ خلافًا لمناطق أرمينيا المركزية الواقعة تحت الحكم التركي والإيراني باستقلاليتها النسبية، وبموجب معاهدة جوليستان الموقعة بين إيران وروسيا في سنة ١٨١٣ انتقلت كاراباخ إلى حوزة روسيا.
وفي أواخر القرن الثامن عشر أوائل القرن التاسع عشر شهدت كاراباخ بناء المساجد والقصور والخانات وشكل المسلمون بحلول هذا القرن٥٪ من مجمل سكانها.
وفي الخامس من يوليو عام ١٩٢١م اتخذ مكتب القوقاز التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم روسيا قرارًا جديدًا باعتبار کاراباخ تابعة لأذربيجان، وتجدر الإشارة إلى أن الأرمن كانوا يشكلون ٩٤٪ من عدد سكان كاراباخ الإجمالي في ذلك الحين.
ومنذ أوائل العشرينيات ومسألة كاراباخ تشكل مصدرًا دائمًا للتوتر وموضعًا للخلاف بين أذربيجان وأرمينيا.
وفي ٧ يوليو ١٩٢٣م تم تكوين ما يسمى بـ مقاطعة كاراباخ ذات الحكم الذاتي، بمركزها الواقع في بلدة خانقيندي «أوستيبانكيرت» مما جعل السخط والاستياء يتزايدان لدى الأرمن.
وقد تم طرح العديد من الخطط لإيجاد حل لقضية كاراباخ كان أبرزها خطة بول جويل المستشار السابق في وزارة الخارجية الأمريكية، واقترحت هذه الخطة، تبادل قطع الأرض بين أرمينيا وأذربيجان بحيث تتسلم أرمينيا جزءًا من المناطق المأهولة بالأرمن في كاراباخ وكذلك «ممر لا تشين» الذي يربط أرمينيا بالمنطقة، بينما تتسلم أذربيجان بدورها حزامًا من الأرض الأرمينية «وتحديداً منطقة ميجري التي تفصل أذربيجان عن جمهورية ناخيشيفان الداخلة في قوامها والمأهولة أساسًا بالأذربيين».
وقد عارضت أرمينيا هذه الخطة، لأن اقتطاع جزء من أراضيها سيفقدها حزامًا حدوديًا متصلًا بإيران على امتداد ١٦ كم ويبقيها محاصرة بين أذربيجان وتركيا.
وقد علق الصحفي الروسي أندريه نويكين بأن هناك قطاعًا ضيقًا من على هذه الخطة الحدود المشتركة بين أرمينيا وإيران يقع في منطقة ميجري الأرمينية، ومن شأن هذا القطاع بالذات أن يقطع الصلة المباشرة بين تركيا وأذربيجان عبر ناخیشیفان.
ويصطدم بهذه القطعة من الأرض مشروع خطوط الأنابيب الذي يمكن أن يتيح للأتراك ضخ النفط الخام من خلاله، ودون المرور عبر البلدان الأخرى، الأمر الذي أدركت أرمينيا قيمته الحقيقية مؤخرًا.
أما خصم تركيا ومنافسها الدائم إيران فسيجد نفسه خاسرًا في الصراع من أجل النفط والغاز والنفوذ في المناطق الإسلامية من الاتحاد السوفييتي السابق، ومهددًا على ما يبدو بانفصال «قطعة» كبيرة من البلاد يسكنها الأذريون الجنوبيون مستقبلًا عن إيران، ولدى مثل هذا التطور للأمور تستطيع فكرة قيام التوازن الأعظم، التي كانت مطروحة وفق خطة بول جويل منذ سنوات ثم حفظت مؤقتًا أو توارت تحت عبارات الولاء لمصالح حلف الناتو، أن تصبح واقعية وقابلة للتنفيذ بما فيه الكفاية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي في رأي نويكين لا تخفي منذ القدم أنها ترى بعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية الأصولية الإسلامية، خصمًا استراتيجيًا رئيسيًا لها، وتعتبر تركيا حليفها الاستراتيجي في المنطقة.
وفي العشرين من فبراير عام ١٩٨٨م أشعل قرار القيادة السوفييتية بسلخ إقليم «كاراباخ» من جمهورية أذربيجان «إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق حينذاك» ومنحه نوعًا من الحكم الذاتي، فتيل النزاع بين الأرمن والأذربيين في منطقة ما وراء القوقاز.
وعزا المراقبون قرار الكرملين إلى تأثير اللوبي الأرميني القوي على القيادة السوفييتية حينذاك، وسيطرتهم على المجلس الرئاسي الذي شكله جور با تشوف في ذلك الوقت لمعالجة قضايا النزاعات العرقية والسياسية التي تفجرت في ربوع الإمبراطورية السوفييتية المنهارة.
ورغم المآسي البشرية والخسائر المادية الفادحة التي أسفرت عن الحرب الأرمينية الأذرية في مطلع العقد الجاري، والتي شهدت مذابح بشعة ضد المسلمين الأذربيين على أيدي المتطرفين في كاراباخ، وبدعم مباشر من أرمينيا، وغير مباشر من روسيا رغم هذه المآسي يواصل القوميون الأرمن تنظيم الاحتفالات الواسعة بذكرى استقلال إقليم كاراباخ عن أذربيجان وبذكري إعلان جمهورية كاراباخ عام١٩٩٢م.
لقد غدا الموقف من قضية كاراباخ ورقة رابحة في أيدي القوميين الأرمن سواء في جمهورية أرمينيا ذاتها أو في جمهورية كاراباخ المعلنة من جانب واحد، والدليل على ذلك هو فقدان الرئيس الأرميني ليون بتروسيان لمنصبه وإجباره على الاستقالة عقابًا له في تصريحاته التي أعلن من خلالها ميله لإيجاد تسوية سلمية للنزاع على «كاراباخ» وقبول التفاوض بشأنه بوساطة من روسيا المتحيزة للأرمن ومجموعة «مينسك» المنبثقة عن مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي.
وقد وافق البرلمان الأرميني بالفعل في مطلع شهر فبراير المنصرم على طلب الاستقالة الذي تقدم به الرئيس ليون بتروسیان بتأييد ۱۱۱ نائبًا واعتراض ٣٦ وامتناع ثلاثة آخرين عن التصويت، كما وافق البرلمان الأرميني، في نفس الجلسة على استقالة رئيس البرلمان بابكين أراركنسيان واثنين من نوابه بعد أن أعلنوا تأییدهم للرئيس المستقيل.
وخلافًا للدستور المعمول به حاليًا في أرمينيا، والذي ينص على تولي رئيس البرلمان مهام رئيس البلاد في حال استقالة الأخير أو عجزه عن العمل لحين إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة أقدم النواب الأرمن على تكليف رئيس الحكومة وزعيم القوميين الأرمن روبيرت كوتشيريان القيام بمهام الرئيس بالنيابة خلفًا للرئيس المستقيل ولحين إجراء الانتخابات المبكرة في السابع عشر من مارس المقبل، والمعروف أن الرئيس الأرميني الجديد بالنيابة روبرت كوتشيريان قد شغل في السابق منصب رئيس جمهورية «كاراباخ» المعلنة من جانب الأرمن والتي لم تنل اعتراف أي من الدول الاجنبية بعد، كما أنه من القوميين المتشددين الذين يعارضون الانسحاب من الأراضي الأذرية التي احتلها الأرمن عام ۱۹۹۲م والتي تقدر بأكثر من خمس أراضي أذربيجان.
وفي أعقاب استقالة رئيس البرلمان بابكين أراركتسيان انتخب النواب رئيس الحكومة الأرمينية الأسبق خوسروف أروتيونيان رئيسًا جديدًا للبرلمان والذي لم ير في معرض رده على أسئلة الصحفيين أثناء زيارته الأخيرة لموسكو في نهاية الأسبوع قبل الماضي غبنًا في تكليف رئيس الحكومة روبيرت كوتشيريان القيام بمهام رئيس الدولة، حتى وإن كان ذلك يخالف الدستور الذي يقضي بتولي رئيس البرلمان رئاسة البلاد في مثل هذه الظروف، واعتبر رئيس البرلمان الأرميني الجديد أن الأوضاع المعقدة والصعبة التي تعيشها أرمينيا في الوقت الراهن والانقسام الحاد داخل هيئتها التشريعية جاءت بمثابة عقبات موضوعية حالت دون قيام رئيس البرلمان بمهام رئيس البلاد لحين إجراءات الانتخابات الرئاسية المبكرة، كما اعترف رئيس البرلمان الجديد بعجزه عن القيام بصلاحيات رئيس البلاد في الوقت الراهن لأنه كما قال جاء نتيجة حلول وسط معقدة جدًا ولإدارة عمل الهيئة التشريعية دون غيرها من مؤسسات السلطة الأخرى.
وفي الوقت الذي استبعد فيه مشاركته في الانتخابات الرئاسية المقبلة توقع احتدام المنافسة بين رئيس الحكومة والقائم بأعمال رئيس الجمهورية ورئيس الاتحاد الوطني الديمقراطي والمرشح الأسبق للانتخابات الرئاسية فارجين مانوكيان وكأمر طبيعي في ظل القلاقل التي تشهدها البلاد.
وسعى أروتيونيان إلى تبديد مخاوف الدول الأجنبية والمجاورة من التغييرات التي لحقت بالقيادة السياسية في أرمينيا ومن مغبة التأثير السلبي لنجاح زعيم القوميين المتطرفين الأرمن روبيرت كوتشيريان على العلاقات الأرمينية مع روسيا الاتحادية وأذربيجان وجورجيا وغيرها من بلدان الجوار. وفي المقابل أكد رئيس البرلمان الأرميني الجديد حرص القيادة الأرمينية الجديدة على دعم علاقاتها مع أنقرة على أساس مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية والاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة.
الجدير بالذكر أن الرئيس الأرميني بالنيابة كان قد سارع، بعد استقالة الرئيس الأسبق بدعوة وفد كبير من رجال الأعمال الأتراك إلى يريفان وبحث معهم سبل دفع التعاون المتعدد الأوجه بين أرمينيا وتركيا .
وإلى جانب المرشحين الرئيسيين المتنافسين على المنصب الرئاسي في أرمينيا، وهما رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية بالنيابة وزعيم الاتحاد الوطني الديمقراطي ينوي زعيم الشيوعيين الأرمن كارين ديميرتشيان البالغ من العمر ٦٦ عامًا المشاركة في الانتخابات وهو الذي أقاله الرئيس السوفييتي الأسبق جور با تشوف من منصب السكرتير الأول للحزب الشيوعي الأرميني عام ۱۹۸۸م، في أعقاب تفجر النزاع المسلح بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم كاراباخ، ويعرف عنه مواقفه السياسية المعتدلة، الأمر الذي ساعده على الاحتفاظ بمنصبه كمدير لأحد المصانع الأرمينية بعد إقالته من منصب سكرتير الحزب الشيوعي الأرميني.
ويؤيد كثيرون من الأرمن ترشيح ديميرتشيان للانتخابات الرئاسية لقناعتهم بأن فوزه فيها يمهد الطريق لتطبيع علاقات أرمينيا مع بلدان الجوار القريب روسيا وأذربيجان وجورجيا، وذلك بحكم العلاقات التاريخية والقديمة التي ربطت بينه وبين زعماء هذه الدول يلتسين وعلييف وشيفر نادزه - أثناء عملهم المشترك من خلال عضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي في العهد السوفييتي، كما أعرب عضو البرلمان والعضو القيادي في لجنة «كاراباخ» دافيد شاخنازاریان (٤٢عامًا) عن عزمه المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مدعومًا من الرئيس المستقيل ليون بتروسیان ورغم مشاركة ممثلي التيارات السياسية المختلفة في الانتخابات الرئاسية يجمع المراقبون على أن تأييد وزارات القوة الدفاع والأمن القومي والداخلية للرئيس بالنيابة ورئيس الحكومة روبيرت كوتشيريان قد يلعب الدور الرئيسي في حسم نتيجة الانتخابات المقبلة لصالح كوتشيريان، فهو يتمتع بتأييد المنظمات القومية المتطرفة التي ترفض التفاوض على إقليم «كاراباخ» ويرفض الانسحاب من الأراضي الأذرية المحتلة.
في هذه الأثناء تعكف القيادة الأذرية على مراقبة التطورات المتلاحقة على الساحة الأرمينية وتأثيرها على المفاوضات المتعثرة والتي يرعاها مؤتمر الأمن والتعاون الأوربي لتسوية النزاع ولا تخفي باكو قلقها من احتمال فوز زعيم القوميين الأرمن الرئيس الحالي بالنيابة.
كما تخشى القيادة الأذرية من إقدام الصقور الأرمن «أو ما يسمونهم بحزب الحرب» على الاتفاق مع بعض الدوائر الروسية التي لا يروق لها توطيد العلاقات بين أذربيجان والغرب لتدبير هجوم على الأراضي الأذرية مستغلين في ذلك انصراف الاهتمام الدولي إلى منطقة الخليج العربي.
ومن هذا المنطلق ليس صدفة أن ترى «باكو» الارتباط المباشر والوثيق بين المحاولة الفاشلة التي استهدفت الرئيس الجورجي شيفر نادزه وإقالة الرئيس الأرميني المعتدل ليون بتروسيان وبين مخططات الدوائر الروسية التي أزعجتها الدعوة لوحدة شعوب وبلدان منطقتي شمال و ما وراء القوقاز، مما يعني حتمًا ابتعادها عن دائرة التأثير الروسي.
وحتى لو سلمنا باحتمال إقدام القيادة الأرمينية الجديدة في حال فوز كوتشيريان، على خرق الهدنة القائمة مع أذربيجان واستئناف العمليات الحربية لممارسة مزيد من الضغوط على «باكو» وإرغامها على الاعتراف باستقلال جمهورية «كاراباخ» فإن مجرد وصول زعيم الانفصاليين الكاراباخيين الأرمن إلى السلطة في أرمينيا يخلق وضعًا سياسيًا جديدًا سوف تجد القيادة الأذرية صعوبات جمة في التعايش معه، ناهيك عن قبوله أو الجلوس معه على مائدة المفاوضات لتسوية القضايا المتنازع عليها.
الجدير بالذكر أن القيادة الأرمينية السابقة ممثلة في الرئيس المستقيل ليون بتروسيان كانت قد بذلت جهودًا مستميتة لإقناع باكو بمجرد الجلوس مع الانفصاليين الكاراباخيين والتفاوض المباشر معهم، الأمر الذي رفضته القيادة الأذرية لقناعتها بأن النزاع المسلح الذي جرى عام ۱۹۹۲م كان بين أذربيجان وأرمينيا. بل يؤكد رئيس مجلس الأمن القومي الأذري وفاء حولوذاوي نجاح الضغوط الروسية في تعيين زعيم الانفصاليين الكاراباخيين رئيسًا للحكومة الأرمينية في أبريل عام ١٩٩٧م في عهد الرئيس المستقيل ليون بتروسيان للحد من اندفاع الأخير نحو «الغرب».
وبهذا الصدد، يستبعد جولوذاوي إمكانية استمرار روسيا إلى جانب مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في القيام بدور الوسيط لتسوية النزاع حول إقليم كاراباخ، بعد أن تكشف دورها في دعم الانفصاليين الكاراباخيين وتسهيل مهمتهم في الاستيلاء على السلطة ليس في «كاراباخ» فحسب، بل في أرمينيا كذلك، هذا في الوقت الذي تعاني فيه العلاقات الروسية الأذرية مزيدًا من التوتر بسبب إمدادات الأسلحة السرية الروسية للأرمن، ورغبة «باكو» في تصدير نفطها عبر المسار الجورجي وبعيدًا عن المسار الروسي الشيشاني .
سياسة روسيا اتجاه كاراباخ
تكتسب المصالح ومواقف القوى الخارجية من النزاع أهمية بالغة بصدد «تدويل» النزاع الذي يمس بالدرجة الأولى مصالح روسيا من الأوجه التالية:
أولًا: تتحمل «روسيا» كوريثة «المركز السابق» مسؤولية غير مباشرة عن تقويت فرص التسوية في مراحل النزاع الأولى.
ثانيًا: إن النزاع يقع قريبًا من حدود روسيا الجنوبية، فداغستان المنتمية إلى روسيا لها حدود مباشرة، ومعقدة من الناحية الإثنية، مع أذربيجان التي تعيش «حالة الحرب» مع أرمينيا، كما أن القوقاز الشمالي يمثل منطقة تابعة لروسيا، متنوعة من الناحيتين القومية والدينية، لذا فإن نزاع كاراباخ قد يفجر السلام الهش في إقليم القوقاز الشمالي.
ثالثًا: إن وجود العديد من المسلمين في مناطق عديدة أخرى من روسيا «تترستان، باشکور توستان، الفولجا، الأورال» يعقد حركة المناورة الروسية في هذا النزاع.
رابعًا: يوجد في رابطة «الكومنولث» بالإضافة إلى أذربيجان خمس جمهوريات إسلامية إلى جانب أذربيجان الإسلامية بغض النظر عن حقوق ومسؤولية أو ذنب أرمينيا أو أذربيجان في نشوب هذا النزاع.
إن روسيا تتحمل المسؤولية عن عدم تجاوز النزاع حدوده الحالية، كما أن النزاع يؤثر مباشرة على العلاقات الثنائية بين روسيا وأرمينيا من جانب، وروسيا وأذربيجان من جانب آخر، ومما لاشك فيه أن كل طرف من الطرفين يريد أن تكون روسيا حليفًا له، لكن كل طرف يدرك أيضًا أن روسيا لا يمكن أن تقف جهارًا على الأقل، إلى جانب أي منهما، لذا فإن الطرفين لا يمكنهما إلا أن يعولا على حياد روسيا، أما روسيا فتهتم بإضفاء الطابع «المحلي» على النزاع وتسويته بأسرع ما يمكن تجاه كاراباخ.
ولكن الماضي التاريخي للعلاقات الروسية الأرمينية يفرض على روسيا ضمان دعم أرمينيا في سعيها لإبقاء نفسها كدولة، وإن كان ذلك ضمن «الحدود المتواضعة» إلا أن ذلك لا يعني أن روسيا ملزمة بدعم أي ادعاءات إقليمية أو أخرى من قبل أرمينيا تجاه أذربيجان أو أي نوايا في الحديث باسم سكان كاراباخ وإن كانت عمليا تدعم الأرمن.
من الناحية الاقتصادية، فإن العلاقات مع أرمينيا، لا تؤدي دورًا مهمًا خاصًا بالنسبة لروسيا. فطبيعي أن صلات اقتصادية وثيقة تكونت بينهما في إطار الاتحاد السوفيتي، «شأنها شأن الصلات بين روسيا وأذربيجان».
لكن ثروات روسيا الطبيعية تمكنها من تحمل قطع هذه الصلات بسهولة مع أذربيجان أكثر من أرمينيا، أما من الناحية السياسية فإن روسيا ضرورية بالنسبة لأرمينيا لمواجهة تطلعات تركيا وإيران المعادية للأرمن والنصرانية وإذا أخذنا بعين الاعتبار نفوذ أرمينيا البالغ في العالم «نفوذ أرمن الشتات» فإن ذلك يجعل أرمينيا حليفًا مهمًا دائمًا لروسيا في حالة عدم اتخاذ روسيا «خطوات معادية لأرمينيا».
أما أهمية أذربيجان بالنسبة لروسيا فتتحدد بعوامل أخرى بخلاف ما هو عليه في أرمينيا، فمعظم سكان أذربيجان متمسك بالدين الإسلامي
ويستبعد إمكانية أن تشغل روسيا موقفًا معاديًا لها، وبالإضافة إلى ذلك يوجد لدى أذربيجان حليف مضمون متنفذ هو تركيا، وسيقف الإيرانيون من الشيعة موقف التأييد من أذربيجان بالرغم من تصريحات قادة إيران، وذلك يعود إلى التنافس التركي الإيراني في المنطقة، وقضية الأقلية الأذرية في إيران وترتبط الطائفتان الروسيتان ارتباطًا مباشرًا بصلات روسيا في أرمينيا وأذربيجان، مع الجمهوريتين، ففي أرمينيا يقطن حوالي ٥٠ ألف روسي (أي ١,6٪) من مجموع السكان، أما أذربيجان فإن عدد الروس فيها يبلغ 100 ألف (أي ٪5.٦).
وليس من المستبعد أن الروس قد يتعرضون للملاحقات وأعمال القمع في أذربيجان، فيما إذا اعتبرت باكو موقف موسكو «معاديًا لأذربيجان» وهذا يمكن أن يؤدي إلى هجرة الروس من الجمهورية، أما أرمينيا فإن هذا الخطر غير قائم فيها.
وفيما يخص الجاليتين الأرمينية والأذرية في روسيا، فإن الصورة معاكسة تمامًا هنا، فإن الجالية الأرمينية في روسيا أكبر من الأذرية بكثير «يبلغ عدد الأرمن في روسيا ٦٠٠٠ ألف شخص».
وتعلن أذربيجان أن الأرمن يشغلون مراكز قوية ليس فقط في الاقتصاد والعلم، بل في الأوساط المقربة من الحكومة كذلك، وتعلق باكو على وجود «اللوبي الأرميني» في القيادة الروسية.
أما الجالية الأذرية في روسيا، فإنها أقل عددًا، كما أن نفوذها في الحياة الاجتماعية بروسيا أكثر تواضعًا، وإذا أضفنا إلى ذلك المشاعر المعادية للأذريين لدى بعض أوساط الرأي العام بسبب زيادة عدد الجرائم في المدن وربط ذلك بدور الأذريين على صفحات الصحف فيمكن الافتراض أن الشعب في روسيا باستثناء بعض المناطق، يميل لتأييد النهج الموالي للأرمن.
إن وجود العديد من الدول الإسلامية في قوام رابطة الكومنولث جمهوريات آسيا الوسطى ومعظم سكان كازاخستان يستبعد إمكانية أن تتخذ روسيا موقفًا معاديًا لأذربيجان، لأن ذلك ينطوي على خطر تدهور العلاقات مع هذه الدول، وبالتالي إضعاف الرابطة ومواقف روسيا فيها، ولابد من أن تأخذ بعين الاعتبار عدم تجانس قوام القوات المسلحة لرابطة الكومنولث حيث يشغل المسلمون مكانة كبيرة بين الأفراد وضباط الصف ويشعر قادة دول آسيا الوسطى بالخوف من الصحوة الإسلامية علمًا بأن معظمهم يمثلون القيادات الشيوعية القديمة.
إنهم لا يستطيعون تأييد أي أعمال من قبل روسيا، يمكن تفسيرها كأعمال وخطوات معادية للإسلام، لا بسبب أن ذلك قد يكون إهانة لمشاعرهم الدينية، بل لأن ذلك يمكن أن يستغله خصومهم السياسيون ضدهم، إنهم ملزمون باحترام الدين، وبالتالي فإن موقفهم الموالي لأذربيجان شيء مقرر كما أن روسيا ملزمة بأخذ ذلك بعين الاعتبار في سیاستها تجاه كاراباخ.