العنوان إلى متى سيستمر العجز العربي في فهم السياسة الدولية؟!
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 02-ديسمبر-1997
مشاهدات 11
نشر في العدد 1278
نشر في الصفحة 47
الثلاثاء 02-ديسمبر-1997
الأخطاء في مواجهة الأقوياء قد لا تنجبر بسهولة، بل قد تكون قاصمة الظهر، فليس من أخطأ في مواجهة أسد كمن أخطأ في مواجهة هرة، ومن سقط من عثرة بحجر غير من سقط من ناطحة سحاب، والأمة العربية عاشت زمنًا غيبت فيه عن الوعي، ونومت فيه عن الحقيقة وهمشت فيه عن الحياة، ومارست حقبًا طفولة التفكير السياسي، حتى صارت طعمة شهية لذئاب الصليبية الحاقدة والصهيونية المتربصة، فمثلًا: إلى عهد قريب كانت الأمة العربية تجمعها دولة الخلافة العثمانية، التي كانت تمثل المعسكر الأول في العالم آنذاك، وترهلت الخلافة وفسدت السلطة فيها لأسباب كثيرة، وهذا قد يحدث في دول كثيرة أن يمرض نظام أو تصاب أمة بالعلل، فيتقدم المخلصون في الأمة بالعلاج والإصلاح وبالدواء والتقويم، وليس بقتل المريض وإهدار دم الأمة ونسف الدولة.
وهذا هو الخطأ الذي ارتكبه كثير من الوطنيين والمثقفين في حق الدولة التي كانت تجمع المسلمين وتمثل هيبتهم وترهب أعداءهم، وتحمي بيضتهم، وهذه هي الكارثة التي ما زال المعارضون في الأقطار الإسلامية يعيشونها إلى الآن، تغبش الرؤية في أعينهم، وتختل الموازين في عقولهم فلا يفرقون بين الإصلاح والقتل، وبين العلاج للمريض وتمزيق جسده، ولا أخص قُطرًا بذاته أو معارضة بذاتها، وإنما أدع ذلك لفطنة القارئ ومعايشته للصراع على الأرض العربية، ولا أكون مبالغًا إذا قلت: إن هذا بالضبط ما يريده أعداء الأمة، وما يوحون به ويشجعونه ويؤيدونه بالدعم أو المساندة، وقد يأتيهم هذا هدية على حساب الغير، وبكلفة وطنية جاهلة عمية، وصدق القائل «ما يفعل الأعداء من جاهل ما يفعل الجاهل من نفسه».
والخطأ في هدم الخلافة الإسلامية والدولة العلية كان كارثة إسلامية وقومية بكل المقاييس، حيث لم تستطع الدول الاستعمارية القضاء على الخلافة، ولم يستطع اليهود التسلل إلى فلسطين، فعمدوا إلى إثارة المصلحين العرب والمثقفين في الأمة الإسلامية، ضد الخلافة بل حربها، مستغلين طموح بعضهم للحكم وحبه للرياسة، وعقدت بريطانيا اتفاقًا شفهيًا فضفاضًا مع المتحمسين العرب بقيادة الشريف حسين يعلن بموجبه العرب الثورة على الخلافة والمشاركة في حربها مع المستعمرين.
وبعد اطمئنان بريطانيا وحلفائها إلى إيقاد نار الفتنة، اجتمعت بريطانيا وفرنسا بعد ذلك بأيام للاتفاق على تقسيم البلاد العربية بينهم، فيما يُعرف «باتفاقية سايكس بيكو» عام ١٩١٦م، وفي ١٩١٧ أعلن وعد بلفور الشهير بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ودخلت الجيوش البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي إلى فلسطين، واحتلت القدس في 11 / 12 / 1917م بعد ستة أسابيع من وعد بلفور، وخطب اللنبي خطبته الشهيرة التي قال فيها: الآن انتهت الحروب الصليبية وانتهى الحكم الإسلامي: «ولا عزاء للمغفلين».
واحتلت البلاد العربية وقسّمت بين الدول المستعمرة وخضعت البلاد للاستعمار ورزحت تحت نيره وقسم العرب والبلاد مزقًا، كل قطعة سماها دولة وولى عليها أحد مريديه لينفذ ما يعلى عليه، وكم في ذلك من المبكيات المضحكات، وظهرت الدول تباعًا وحدد لها حدودًا، وسأذكر على سبيل المثال مرسوم قيام دولة العراق وأبقي بقية مراسيم الدول الأخرى إلى حين، فقد جاء في مرسوم إنشاء القُطر العراقي ما يلي: «بناء على الحرية التي منحتنا إياها الدول العظمى وفي مقدمتها الدولتان الفخمتان، إنجلترا وفرنسا، وحيث إننا ممثلو جمهور كبير من الأمة العربية العراقية المسلمة، فإننا نطلب للعراق حكومة عربية إسلامية يرأسها ملك عربي مسلم هو أحد أنجال جلالة الملك حسين على أن يكون مقيدًا بمجلس تشريعي وطني والله ولي التوفيق، في 18 / 1 / 1919م الكاظمية العراق.
هكذا أوعزت بريطانيا إلى كل قطعة أن تطالب بتكوين دولة خاصة بها تولي عليها ما تختار من الملوك وجعلت هذه هي رغبة الشعب، ولهذا فقد اجتمع بإيعاز بريطاني ٢٥ شخصًا من العلماء ورؤساء الطوائف لتأييد هذا التوجه، وقدموا عريضة تأييد يقولون فيها: «اجتمعنا نحن ممثلو الإسلام من السنة والشيعة من سكان مدينة بغداد وضواحيها، وبما إننا أمة عربية وإسلامية، فقد اخترنا أن تكون بلاد العراق الممتدة من شمال الموصل إلى خليج العجم دولة واحدة عربية يرأسها ملك عربي مسلم، هو أحد أنجال سيدنا الشريف حسين مقيدًا بمجلس تشريعي وطني مقره بغداد عاصمة العراق».
وهكذا ظهرت الدول تباعًا، وتمزق الكيان العربي الإسلامي تحت سمع وبصر الأغرار من الأمة والمخدوعين من المثقفين البله، وبعد فترة وجيزة شَعَر المغرر بهم من المثقفين والوطنيين العرب بفداحة الجرم الذي ارتكب، خاصة بعد أن تعرضوا للاضطهاد والتصفيات، وبعد دخول اليهود إلى فلسطين، وبعد زج الأمة في حرب ضروس في جانب إنجلترا وضد الألمان وحلفائهم، ولا ناقة للأمة فيها ولا جمل، ولكن طمعًا في الاستقلال بعد الحرب، وتعطف إنجلترا على العرب بإعادة الخلافة إليهم، بعد القدم الطويل عليها والبكاء الحار على ضياعها:
أتبك على ليلى وأنت أضعتها
لقد ذهبت ليلي فما أنت فاعل؟
ولأظهر عمق المرارة والندم أذكر فقرات من مؤتمر القدس الإسلامي العربي الذي عُقد في 13 / 12 / 1931م حيث يقول: «وبعد الخديعة التي تمت، وبعد أن أريقت دماء الأمة في الحرب العالمية بجانب الحلفاء لم يحقق المستعمرون وعودهم لنا، وما كانت تنكشف الحرب، حتى أخذ العرب يلقون من المطامع الاستعمارية غمطًا لحقوقهم وجهادهم، وجحودًا لضحاياهم، وظهر الحلفاء والمستعمرون بمؤامراتهم علنًا بعد أن تواطؤوا عليها سرًا لتجزئة البلاد والكيد للقضية العربية، واستهانة بملايين المسلمين، ولقد كان من أحد مظاهر تلك المؤامرة المنكرة، إشغال كل قُطر من الأقطار العربية عن إخوانهم في الأقطار الأخرى بقضايا إقليمية مصطنعة، وأوضاع محلية متقلصة، ونكبات متنوعة لا حصر لها، تبديدًا لجهود الأمة وصرفها عن الامتداد إلى أفق أعلى لنهضة الأمة وارتقائها، وقد استغرقت هذه الشواغل المدسوسة أوقات أبناء كل قُطر، وبذرت بينهم العداوات على حدود مصطنعة والفتن على أوهام تافهة، حتى أدرك المستعمر مآربه من جعلهم أشتاتًا، وضاع الوطن الذي كان موحدًا مستقلًا، وذهبت هيئة الأمة التي طالما طأطأ العالم لها الرأس وملأت جنباته علمًا وخيرًا ونورًا»..
وبعد.. هل ترانا يا أخي اختلفنا كثيرًا عن ذي قبل؟ وهل ترانا فقهنا شيئًا في السياسة الاستعمارية التي ظلت إلى الآن تفعل بنا الأفاعيل، وتشغلنا عن أهم قضايانا تارة ببعضنا البعض، وتارة أخرى بمشاكل مصطنعة لا تنتهي، ونحن معصوبو الأعين.. شاردو اللب.. تائهو الطريق، فهل نفيق من هذا التيه، أم سيستمر هذا العجز المُفجع؟ نسأل الله التوفيق والسداد، آمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل