24 فبراير 2025

|

أبو بصير.. مؤسس «قوات المغاوير» خارج الدولة

بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وبعد صبر ومصابرة أهل غزة العزة، وبعد هذه الملحمة التي لم يشهد لها تاريخ الصراع مثيلاً، نستذكر في هذا الصدد قصة صحابي جليل أسس قوات مغاوير خارج الدولة بعد عقد النبي صلى الله عليه وسلم «اتفاق الحديبية» مع قريش، حيث استنزفت قواته المشركين وأضعفتهم؛ ما أدى إلى تنازلهم عن أهم شرط حرصوا عليه خلال الاتفاق، حيث سنعيش مع هذه القصة ونستخرج منها بعض الدروس والعبر.

أبو بصير رضي الله عنه هو عُتبة بن أَسِيد بن جارية الثقفي -حليف بني زهرة- أسلم قديماً بمكة، فحبسَه المشركون في مكة عن الهجرة، فانفلت منهم بعد «صلح الحديبية»، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد رجوعه من الحديبية. 

وقد كان من بنود الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين «أنه من أتى محمداً بغير إذن وليه رده محمدٌ إليه». 

فكتب الأخنس بن شُريق، وأزهر بن عبد عوف الزهري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، وبعثا رجلاً اسمه خُنَيس، ومعه عبد له اسمه كوثر، وأرسلا معهما كتاباً يطلبان فيه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يَرُدّ إليهم أبا بصير. 

فسلما النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه، مِنْ رَدِّ مَن قدم عليك من أصحابنا فابعث إلينا بصاحبنا. 

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير أن يرجع معهما، فقال: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً». 

فخرج معهما، وجعل المسلمون يُسِرّون إلى أبي بصير: يا أبا بصير، الرجل يكون خيراً من ألف رجل، فافعل وافعل؛ يأمرونه بقتل اللذين معه، فانتهيا به عند صلاة الظهر بذي الحليفة، فصلى أبو بصير في مسجدها، ومعه زاد له من تمر يحمله، فدعا خُنيساً وصاحبه ليأكلا معه فقدَّما سُفرة فأكلوا جميعاً، وقد علَّق خُنيس سيفه في الجدار وتحادثا، فسلَّ خُنَيس سيفه ثم هزَّه، فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل، فقال له أبو بصير: أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم، قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به فقتله، وخرج كوثر هارباً نحو المدينة، وأبو بصير يلحق به. 

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعراً»، ثم قال له: «ويحك، ما لك؟»، قال: قَتل والله صاحبُكم صاحبي، وهربت منه، فاستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمَّنه، وأقبل أبو بصير ودخل حاملاً سيفه، فقال: يا رسول الله، قد وفت ذمتُك وأدى الله عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مِسعَرَ حرب، لو كان معه رجال»، وعندها عرف أبو بصير بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيردُّه، فخرج أبو بصير، ومعه خمسة كانوا قدموا معه من مكة حتى قدموا سيف البحر على طريق تجارة قريش.

وهرب أبو جندل بن سهيل بن عمرو من سجنه في مكة، وكان قد رده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين في الحديبية كأبي بصير، فخرج هو وسبعون راكباً ممن أسلموا فلحقوا بأبي بصير، ولما قدم أبو جندل على أبي بصير سلَّم له الأمر، لكونه قرشياً، فكان أبو جندل يؤمهم، واجتمع إليهم ناس من بني غفار وأسلم وجهينة، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل لا تمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا من فيها، وضيَّقوا على قريش.

فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير، وأبي جندل ومن معهما، وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه فهو لك حلال، وقال: فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا باباً لا يصلح إقراره. 

فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير، وأبي جندل، يأمرهما أن يقدُما عليه، ويأمر من معهما أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بصير وهو يموت، فجعل يقرؤه، ومات وهو في يديه، فدفنه أبو جندل مكانه، وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه(1).

الدروس والعبر المستفادة

الأول: بشرى النبي لكل مسلم مظلوم بالفرج:

قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير عند تسليمه لآسريه: «اصبر وَاحتسب فإنَّ اللَّه جاعلٌ لك ولِمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً»؛ وفي ذلك بشرى نبوية عظيمة لكل مظلوم مستضعف في كل زمان ومكان بأن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً، وينبغي للمسلم أن يحتسب ما يصيبه من أسر أو ظلم في سبيل الله لكي يحصل على الأجر بغير حساب من الرب الكريم الوهاب.

الثاني: ينبغي للمسلم المظلوم أن يسعى لكسر قيده بيده: 

لم يجلس أبو بصير ينتظر الفرج، بل فكر وخطط ودبر، وسعى وبادر وتحرك، يفعل ذلك وهو أسير مقيّد، على عنقه السيف، فكان من أثر تلك الروح الإيجابية، والنفس الشجاعة الوثابة، أن كان هو الفرج والمخرج، وكذلك الحال مع أبي جندل، وهذا ما رأيناه في السنوات الأخيرة من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال يحفرون السجن بالملعقة ويخرجون من السجون المحصنة!

الثالث: النبي يحب الذي يسعر الحرب ضد الظالمين:

- قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: «ويل أمه مِسعَرَ حرب»؛ وهي كلمة تعجب يصفه بالمبالغة في الحروب وجودة معالجتها وسرعة النهوض فيها، فهو أول من يوقد نارها(2)؛ ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم معجب ومفتخر به، فحري بشباب الإسلام أن يقتدوا بأبي بصير رضي الله عنه ليكونوا ممن يعجب بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويفتخر.

الرابع: القائد الذكي الألمعي لا تهمه المناصب:

قاد أبو بصير قواته، لكن عندما التحق به أبو جندل تنازل له عن القيادة لأنه قرشي، وهنا تظهر الشخصية العظيمة التي لا تهمها المناصب، بل همها تحقيق الهدف والفوز بمرضاة الله سبحانه.

الرابع: الضغط على العدو يجبره على التنازل:

لم تتنازل قريش عن شروطها إلا بعدما ضيق أبو بصير، وأبو جندل، عليها الخناق اقتصاديًا وعسكريًا، والواجب على أمة الإسلام اليوم أن تواصل مقاطعة العدو الصهيوني وحلفائه اقتصادياً، ولا بد من العمل بكل السبل، وإبداع وسائل جديدة، للضغط على هذا العدو المجرم عسكرياً.

 

 

 

 

 

____________________

(1) سبل الهدى والرشاد (5/ 61). 

(2) معالم السنن (2/ 333).


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة