21 فبراير 2025

|
ثمَّ كذَّبوك يا محمد ﷺ! (2)

هل يبكي الجماد؟!

جِذْع مُكَرَّم أتى به القدر مرة واحدة وما أتى بمثله، كأنه يدري ما يكون من الحدث الشريف، ويعي ما يدور حوله، وقتها أطَلَّتْ الراحة بقوة من بين تفاصيل الحدث الحزين.. لنتعرَّف عليه.

كانت مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم تنبض في قلب العام السابع الهجري (628م)، وقد عَمُرَ المسجد النبوي بالمصلين من المهاجرين والأنصار، وطفقوا يأوون إليه، يعيشون في أكناف علم النبي صلى الله عليه وسلم، وينهلون من منابعه الثرَّة(1) الصافية، ولعل هذا ما دفع رجلاً من الصحابة رضي الله عنهم(2) إلى أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا نجعل لك عريشاً تقوم عليه، ويراك الناس يوم الجمعة ويسمعون خطبتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم». 

ولم يكن بالمدينة سوى نجار واحد(3)، فذهب مع سهل بن سعد الساعدي إلى الخافقين(4)، وقطعا خشبًا من أثلة(5)، وصُـنِعَ منه للنبي صلى الله عليه وسلم منبرٌ من 3 درجات(6)، ووضع المنبر الجديد في الموضع الذي حدَّده النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكان قبل ذلك يعتمد بظهره على أحد جذوع النخيل التي تعمل أعمدة تحت سقف المسجد وهو يخطُب. 

وفي يوم الجمعة وبينما كان يتجه نحو المنبر الجديد وقد جاوز الجذع إليه، فجأة سمع كل من بالمسجد صوتًا يمتد حزناً وتوجعاً، فجعل كل منهم يتلفَّت حوله علَّه يهتدي إلى مصدر الصوت وصاحبه المرتاع، وارتفع الصوت، وجعل صاحبه يغصُّ بالبكاء، ينتحب انتحاب اليتيم، ويبكي بكاء من قهرته الأحداث، وعندما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون لحنين(7) هذه الخشبة؟!»، بُـهِـتـوا، وخُفِضت الأصوات، وسكنت الحركات، وارتفعت الرؤوس فوق الأعناق الممتدة، واستقبلت الجذع واجمة، واتسعت العيون وتسمَّرت النظرات عليه مرتابة: أيمكن أن يخرج الصوت من ذلك الجذع الجامد؟!

يحدِّقون إليه في ذهول لا يناظره سوى ذهول حَيٍّ يستمع إلى حديث ميت لو كان الموتى يتحدثون، لا شك أن هناك خطأ، إن صوته أقوى من الظنون، تجري أبصارهم عليه حيرى: أنت الذي تبكي؟! وكيف؟! وهل يبكي الجماد؟! ولو أجاب لقال: أوتحسبون أنكم فحسب الذين أحببتم محمدًا؟!

يحدِّقون فيه، لم يستبينوا إلَّا جمادًا في جماد، لكنه يتذبذب(8)، وعلى جانبيه تتناثر الأنَّات الجزعة كأنه مريض يتألم، أو مذعور يرتجف، وراحت أنَّاته تعلو في ساحة المسجد حتى رجَّت جدرانه، وإن أنينه يكاد أن يشقَّهُ، ويشق على الأسماع رغم ترحيبها بسماعه، ويشطر القلوب رغم التماسها فيه نشوة تُـنْسيها الهمَّ والألم.

ما زالوا يحدِّقون فيه علَّهم يفهمون شيئًا، وجعلوا يستوعبون ما يجري ويمدُّون أبصارهم إلى ما وراء المعجزة، ويطلقون أخيلتهم لتحلِّق في عالمها الرحب، إنها بيِّنةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أسلمهم بيانها إلى بكاء مستغرق، فالتفوا حول الجذع لكأنما قد سَرِيَ الفزع ومعه الألم منه إليهم، لقد كانوا لا يأبهون له، وأَلِفوا رؤيته جمادًا يشترك مع أشباهه في رفع سقف المسجد فحسب.

وكيف يبكي الجذع؟ وكيف يحسّ؟! تلك معجزة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم مع الجماد أيَّدَهُ الله بها مثل معجزاته مع الإنسان، والحيوان، والنبات، وبالمعجزة أو لنقل بقدرة الله تحوَّل الجذع إلى كتلة من المشاعر، وما فصله عن أحاسيس الإنسان خَلْقٌ ولا مادة، لقد جعلته المعجزة هو والإنسان سواسية إلَّا في المظاهر السطحية، جعلته يشع إحساسًا، جعلته يعرف ويحب، يطمح ويتمنى، يشعر ويبكي. 

إن آيات الله تبدو ويبدو أثرها على الإنسان والحيوان والجماد، ولا عجب أن قَـدّرَ الله الجذع ليعلن عن حبه له صلى الله عليه وسلم، «وقد يقول بعض الناس: هل الجماد يحسّ؟! وهل تريدون أن تُفهمونا أن الجماد يبكي ويضحك؟! نقول لهم: اقرؤوا قول الله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (الدخان: 29)، وهكذا نعرف أن الجماد له عواطف، وأنه يبكي وإن كنَّـا لا نسمع بكاءه»(9).

لذا، ما هدأ الجذع إلا بعدما مسحه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، والتزمه وضمَّه ليفرغ عليه من رحمته الثرَّة، ولم يكد الجذع المفجوع يشعر بضمَّته صلى الله عليه وسلم إلَّا وجعل يئن أنين الصبي الذي يسكت، ويهدأ شيئًا فشيئًا حتى سكن واستقر لكأنه استحى من عدم تنفيذ رغبته الشريفة فصدع لها وأذعن.

وجبرت ضمَّة النبي صلى الله عليه وسلم أحاسيس الجذع وشفَّها(10)، فقد نظر صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين ما هدؤوا إلَّا عندما هدأ الجذع، قائلًا: (أما والذي نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزنًا على رسول الله»، وما أظنُّ الصحب إلَّا وقد صاروا حناجر هاتفة عطرت المسجد بالتكبير، وملأت الجو بالتهليل، وفي رحاب المدينة الطيبة ومنها إلى رحاب الزمان ومنه إلى كل زمان طارت نسمات المعجزة الشريفة رهوة شذِّية(11).. ثم كذَّبوك يا محمد!  

كم يبدو أمر بكاء الجماد غريبًا! بل خلع عليه العجب أبهى حُلَلَهُ، ولكنه رسالة من الله ليست للصحب خاصة، وإنما للإنس عامة، رسالة أدَّاها الجذع بقدرة الله باقتدار، وأعلنها مجلجلة تُدوي: إنه مبعوث السماء لإصلاح الأرض وإرشاد أهلها كافة.

بِلُغَةِ الإيمان خاطب الجذع الإنسان، وعندما يفهم لُغَتهُ ستعود إليه روحه الشاردة في دروب التيه والنسيان، وستبقى رسالة الجذع ما بقيت على الأرض حياة، ستبقى لتنبه الغافلين عن سُنته صلى الله عليه وسلم، ستبقى لِتُرَطِب قلوبًا قاسية وتُذَكِّر أفئدة ناسية، لتوقظ مشاعر هجعت وتحيي أحاسيس ماتت، ستبقى لتصرخ في الإنسان: إن الجماد نشد من أنينه أُنْساً وراحة فقدهما عندما تعدَّاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنبر الجديد، وإنه أشفق من البُعْدِ وذُعر من الفُرْقة عن جسده الشريف وتمنّى التواصل معه، لنتعلم منه وننشد الراحة في اتباع هديه والتزام سُنَّته، ولنشفق من البعد عنها، ونتمنى التواصل معها لنحقق القرب منه صلى الله عليه وسلم وجواره.

إن معجزة حنين الجذع ليست مبالغة مؤرخين ولا أوهام مسلمين، ولكنها حقيقة وقعت، وقد وعت أُذنُ التاريخ الإسلامي العظيم لها، فتلبَّث يملأ سمعه منها ثم سارع إلى تسجيلها.

وقد طفنا بخواطرنا حول المعجزة، ولم تعجز كلماتنا في شيء عَجْزها عن تبيينها، فالمعجزة أكبر من كل الكلمات، وأوسع من عامَّة الخواطر، وأرحب من عُمُوم المعاني، وإن هذا ما نشعر به أمام كافَّة معجزاته الشريفة التي تُدْرك دهش الإنسان وعجبه مهما مرت بالإنسانية السنون، فسبحان من أطلق الجذع من قوانين الجماد، والصلاة والسلام على من حنَّ له الجماد، ورضي الله عمَّن سمعوا بكاء الجماد، فاسمعوا منهم حكاية حنين الجذع وبكاء الجماد.

اسمعوا أُبي بن كعب رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع ويخطب إليه، إذ كان المسجد عريشًا، فقال له رجل من أصحابه: ألا نجعل لك عريشًا تقوم عليه يراك الناس يوم الجمعة ويسمعون من خطبتك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم»، فصُنع له ثلاث درجات اللاتي على المنبر، فلما صُنع المنبر ووضع في موضعه الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أراد أن يأتي المنبر مرَّ عليه، فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحه بيده حتى سكن ثم رجع إلى المنبر، فكان إذا صلى صلى إليه، فلمَّا هُدِم المسجد وغُيِّرَ، أخذ ذاك الجذع أُبي بن كعب، فكان عنده حتى بَـلِـيَ وأكلته الأرضة، وعاد رفاتاً(12). 

اسمعوا جابر بن عبدالله رضي الله عنه: إن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه فإن لي غلاماً نجاراً؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إن شئتِ»، فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صُنِع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، قال صلى الله عليه وسلم: «بكت على ما كانت تسمع من الذكر»(13).

اسمعوا أنس بن مالك رضي الله عنه:. . فلما قعد نبي الله صلى الله عليه وسلم على هذا المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن، ثم قال: «أما والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزنًا على رسول الله»، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فَدُفِن(14).

اسمعوا سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه:. . ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذلك النجار إلى الخافقين، فقطعنا هذا المنبر من أثلة، فقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم فحنَّت الخشبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة؟!»، فأقبل الناس وفَرَقوا من حنينها، حتى كَثُرَ بكاؤهم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتاها، فوضع يده عليها، فسكنت، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها فَدُفِنت تحت منبره أو جُعِلَت في السقف(15).

ومن وراء أكثر من أربعة عشر قرناً من عمر الزمان يطلُّ علينا صدى أنَّـات الجذع، ثم كذَّبوك يا محمد!

 

 

 

 

 

_______________________

(1) الوفيرة.  

(2) قيل: هو تميم الداري رضي الله عنه، وقيل: بل إن امرأة من الأنصار هي التي قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه فإن لي غلاماً نجاراً.  

(3) اختلفت الروايات في تاريخ صُنْع المنبر، فقيل: في السابعة هجرية، وقيل: في الثامنة، وقيل غير ذلك. 

(4) المكان الذي به شجر ولكنه خلا من الأنيس، وخَفَق إذ خلا، والخافقين مكان بالجزيرة العربية. 

(5) شجر طويل مستقيم جيد الخشب يعمر طويلاً.  

(6) قيل: إن السُّنَّـة أن يكون المنبر ثلاث درجات، وما زاد فهو مخالف، وقال أهل العلم: يستحب وجود المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الناس للخطيب، والسماع منه ليتعلموا أمور دينهم، ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات، حتى زاده مروان بن الحكم في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كَثُرَ الناس.                (7) مد الصوت توجعا وتألمُّا. 

(8) يضطرب. 

(9) معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد متولي الشعراوي، ص 70، وفي مختصر تفسير الطبري قيل: إن بكاء السماء حمرة أطرافها. 

(10) ألمها ووجعها.

(11) لينة عطرة.

(12) أخرجه ابن ماجه (1414)، والأرناؤوط في مسنده (21248) وقال: صحيح لغيره.

(13) حديث صحيح: أخرجه البخاري (449)، (2095).

(14) حديث حسن: أخرجه الترمذي (3627)، وابن خزيمة (1777)، والدارمي (1/ 19).

(15) أخرجه ابن رجب في فتح الباري شرح صحيح البخاري (8/ 234)، وموسى شاهين لاشين في فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 167).


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة