الشباب بعد محنة السجون.. تجارب واقعية

د. عمرو نافع

10 فبراير 2025

123

في عام 1961م، رسم بيكاسو لوحة للمجاهدة الجزائرية جميلة بوباشا، سرعان ما تحولت اللوحة لغلاف كتاب ألفته عن المناضلة الجزائرية التي تناولت فيها تجربة اعتقالها وتعذيبها وتفاصيل وقائع محكمتها الجائرة.

لم يرسم بيكاسو الرسام العالمي معتقل تازمامارت الذي يقع على أطراف الصحراء الشرقية المغربية أو الواحات أو المخيمات الفلسطينية آنذاك، لكنها كانت البداية التي خلدت وقائع ما عرف فيما بعد بأدب السجون والمعتقلات وحقيقة الجوانب النفسية والإنسانية التي تخلفها تجربة الاعتقال والسجن والتعذيب والممارسات القمعية.

إن كتابات السجون وتجاربها الواقعية على تنوعها الأيديولوجي واختلاف قيمتها البلاغية والتوثيقية أقرب نسيج فذ يروي تفاصيل عروق الدم وحكايات لهيب الحر والبرد التي يقشعر لها البدن، وتشهد على قدرات الإنسان على التحمل وتجاوز الهزيمة والانكسارات النفسية على الرغْم من كل شيء.

فرسائل نيلسون مانديلا من السجن «في يوم من الأيام سأعود إلى المنزل» تحكي تجربة المناضل عبر سنوات السجن، ورسائل نهرو لابنته الوحيدة أنديرا كانت دروساً في السياسة والفكر، فقد كان يكاتبها من زنزانته، ولما توفي يوم 27 مايو 1964م بدا أثر هذه الرسائل على الابنة، حيث خلفت والدها في رئاسة الحكومة.

وعلى اتساع مساحة العالم الإسلامي، يلاحظ المتأمل ظاهرة واضحة خلال التسعين عاماً الماضية؛ وهي ظهور الصحوة الإسلامية، ولا سيما في مراكز التجمع البشرية الكبيرة، وقد تعرضت لمواجهات كبيرة، ومن هنا ظهر ما يُعرف بـ«ثقافة وأدب المحنة»، فحتمية المحنة لدى المؤمنين وصفها القرآن الكريم: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: 2).

وقد تعرضت جميع الحركات القومية واليسارية واليمينية لتلك الحتمية، وواجهت السلطات والمجتمع؛ وقد قُتل أنطوان سعادة، مؤسس حركة القوميين، ونال الشيوعيون الكثير في السجون، وإنسان المنطقة العربية غير المؤدلج تعرض لمحن ربما لشبهة تعاطيه مع أي من هذا الحركات!

وقد شكّل أدب السجون معبرًا مهماً لوصول أفكار تلك الحركات للجماهير، تجارب كثيرة خرجت من أروقة معتقلات جوانتانامو وأرخبيل الكولاج وصيدنايا وأبو غريب، وغيرها من السجون.

وتثير قضية محنة السجون قضايا مهمة، منها: تأهيل الأفراد بعد الخروج من السجن، وتأثير التجربة على هويتهم ومعتقداتهم، والمراجعات الفكرية والتحولات الأيديولوجية، واستغلال المحنة في تعزيز سرديات المظلومية.

والسجن بحد ذاته آلية لكسر وظيفة الإنسان الحقيقية في الحياة؛ وهي الحرية في التفكير والنشاط، كما يؤثر على المحيطين بالسجين، وكثير من النماذج نرى كيف تحولت للنقيض مع تجربة السجن، أحيانًا في مجتمعات عربية تصبح آلية المراقبة زائدة، والإنسان متهم حتى يثبت العكس، وتصبح كل طرقة على الباب مفتوحة على احتمال أن يكون الإنسان مطلوبًا؛ وهو ما يشيع ثقافة الخوف في الناس.

على جانب آخر، قد تترك تجربة السجن في الدول المتحضرة أثراً إيجابياً في السجين؛ فتساعده على مراجعة تصوراته التي تميل للانحراف والتطرف والجريمة، كما تجعله أقرب لفهم خريطة وطنه الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية، والاقتراب من تجارب إنسانية حتى من أفواه المتورطين في جرائم جنائية، وتفيد في اتخاذ العبرة والدرس، إضافة لأسرار لا يمكن معرفتها خارج السجن!

بطل رواية خندقجي السجين وهو مثقف يحضر دراسات عليا في «الكولونيالية» ليحول عتمة السجن وقضبانه لحياة، يقول لصديقه: أنت لا تعرف معنى السجن الأصغر يا نور.. السجن أفظع واقعة في الحياة.. غربة حديدية صدئة.. وأما السجن الأكبر فأنت تحبس نفسك به.. أنت من تصنعه.

ألم الاندماج في المجتمع

العودة إلى الحياة بعد السجن قد تكون أصعب من الحياة في السجن؛ ففي السجن يتجمد ألم الفراق ومشاعر الحنين للحرية والمدنية، ومع العام الخامس تتحجر العلاقات الإنسانية بين السجين ومجتمع خارج السجن؛ ومن هنا فخروج السجين للنور يحتاج حقاً لتأهيل اجتماعي كبير يجعله أكثر قدرة على الاندماج من جديد.

شخصية السجين «ن ب» الذي جلس في أحد السجون العربية 15 عاماً، جعلته يتأقلم في الغرف والزنازين الانفرادية والجماعية، كانت تأتيه 4 زيارات في العام لبُعد المسافة بين السجن وأهله القادمين من الأرياف، وقد توفي أبوه وهو بعد مسجون ولم يعرف إلا بعد سنوات، وحين خرج وجد أن أمه قد أصبحت مسنة لا يمكنها العناية به، وحين رحلت عن الحياة كانت دموعه قد جفت ولم يستطع البكاء!

حالة هذا السجين كانت أكثر مأسوية عندما قررت السلطات الأمنية في بلده الإفراج عنه، فخرج وعاد إلى شقة الأسرة ليجد صاحب المنزل قد قام بتأجيرها طمعًا في زيادة الأجرة، وأصبح السجين هائماً على وجهه يتاجر في العطور في إحدى محطات القطار كالباعة الجائلين.

ولدينا مثال آخر لسجين سياسي «س م» الذي قضي 10 سنوات من سنوات عمره الثلاثين في سجن سيئ السمعة، فخرج لتتولى رعايته شقيقته التي تزوجت، فقرر أن يذهب لإحدى دور الرعاية الاجتماعية، ومنها إلى باب السجن يطلب من الحارس أن يدخله الزنزانة من جديد، وحاول أن يتواصل معهم للحصول على وجبات، مكرراً الزيارة كل ليلة، حتى عثروا عليه متوفياً على الطريق في صمت عميق.

ومن أعجب القصص التاريخية التي تحكي عن إطلاق مسجون، كان الوالي حريصاً على هلاكه ما حكي أبو جعفر بن حزم ورواه ابن الأزرق في كتابه «بدائع السلك في طبائع الملك»، وكان جالساً بين يدي مخدومه المنصور في بعض مجالس العامة، فرفعت له عريضة استعطاف من أم مسجون في عصره، وكان قد ارتكب جرماً شديداً، فرفض الوالي وهَمّ بكتابة ورقة يُصلب، وإذا به يكتب «يُطلق»، ودفعها إلى أمير الشرطة الذي بدوره، فوصل الأمر إلى الوالي فأمر بإطلاقه على رغمه، وسمي «طليق الله».

ماذا بعد السجن؟

هناك جوانب يجب مراعاتها فور إطلاق سراح الشباب من السجون، منها مراعاة الجانب الإنسانية والاجتماعية؛ فإعادة دمج الشباب في المجتمع بعد السجن، فتعزيز فكرة الإصلاح والتأهيل بدلًا من العقاب يُمكن أن يحدث بها تغيرات كبيرة في مكوناته الفكرية والنفسية، وهنا يتم إبراز قصص النجاح الفردية لتوجيه رسالة ضمنية مفادها أن الأفراد الذين خاضوا تجربة السجن يمكن أن يصبحوا مواطنين صالحين إذا تم دعمهم.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة