العمل الخيري الكويتي.. من الإحسان الفردي إلى المؤسسية الحديثة

لطالما ارتبط اسم الكويت في الذاكرة
الجمعية بالكرم والعطاء؛ عائلات وأفرادٌ بذلوا ما لديهم لمواساة الجيران والقبيلة
ثم المجتمع ككل، لكن المسار التقليدي للصدقات والزكوات الفردية لم يبقَ جامدًا
أمام متغيرات القرنين العشرين والحادي والعشرين؛ فقد شهد المشهد الخيري الكويتي
تحوّلاً تدريجيًا من العطاء الفردي العاطفي إلى منظومة مؤسساتية منظمة وذات آفاق
وطنية وإقليمية ودولية.
في هذا المقال، نرصد هذا التحول، ونحلّل
عوامله وأبعاده، ونستشرف بعض التحديات المستقبلية.
من الجذور التاريخية إلى تأسيس الهياكل الرسمية
العمل الخيري في الكويت -كما في كثير من
دول الخليج- جذوره ضاربة في عمق التقاليد الإسلامية والاجتماعية، لكن ظهور جمعيات
ومؤسسات رسمية بدأ مع مطلع القرن العشرين، ثم تزايدت خلال العقود التالية عبر
تأسيس جمعيات زكاة ومدارس خيرية ومستشفيات أهلية، وتصاعدت وتيرة المؤسسية خصوصاً
بعد ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مع تراكم ثروة الدولة وظهور مؤسسات أكثر تنظيماً،
نُشير هنا إلى أن السجل التاريخي لتطور الجمعيات الخيرية موثَّق في دراسات محلية
ومقالات أرشيفية تدلّ على هذا الانتقال من الخيريّة الفردية إلى العمل المؤسسي.
عوامل دفع التحوّل المؤسسي
يمكن تلخيص العوامل المحرِّكة لتحول
العمل الخيري في الكويت إلى مؤسساتية في نقاط رئيسة:
1- النهج الحكومي المشجّع: تشجيع الدولة
للعطاء الوطني وتيسير عمل الجمعيات أعطى زخماً للأعمال الخيرية المؤسسية، وسمح
بتوسيع نطاق التدخّل إلى مشاريع تعليمية وصحية وتنموية.
2- الاحترافية والإدارة الحديثة: دخول
مناهج التخطيط الإستراتيجي والتسويق والحوكمة إلى العمل الخيري جعل الجمعيات أكثر
قدرة على جذب الموارد وإدارة المشاريع الكبرى، حيث إن تقارير ميدانية تُظهر اعتماد
مؤسسات كويتية أدوات قياس الأثر وابتكارات رقمية لتعزيز الشفافية.
3- التوجه الخارجي والمبادرات الدولية:
الكويت تحولت إلى فاعل إنسانيٍّ خارجي؛ تبرعات خاصة ورسمية خرجت إلى بلدان العالم
النامي؛ ما جعل من العمل الخيري نافذة للدور الإقليمي الكويتي، فهناك تقارير تُشير
إلى مليارات الدولارات كمنح ومساعدات خارجية عبر قنوات خاصة وجمعيات.
4- أزمة الثقة والشفافية التي تطلبت
مؤسسات منظمة: مع تزايد التعقيدات اللوجستية وانتشار الأزمات، مثّل التنظيم
المؤسسي طريقاً للحفاظ على ثقة المتبرعين وتقديم مساعدات أكثر اتساقاً ومصداقية.
مؤشرات رقمية وانعكاسات إقليمية
تشير دراسات ومنشورات عديدة إلى أن حجم
العطاء الكويتي؛ داخلياً وخارجياً، له أثر ملموس، فدراسة بحثية وثّقت أن التدفقات
الخيرية الكويتية عبر قنوات خاصة وصلت إلى مستويات كبيرة، كما أن الكويت ضمن دول
الخليج التي شهدت نمواً في نشاطات المؤسسات الخيرية خلال العقد الأخير، كما أبرزت
تقارير «Giving in the GCC» نمواً في حجم ونوعية الفاعلين الخيريين في المنطقة، مع اتساع دور
المؤسسات العائلية والأوقاف.
نموذج «نماء» وجمعية الإصلاح.. حالة عملية للتحول
نماذج محلية مثل «نماء الخيرية» التابعة
لجمعية الإصلاح الاجتماعي تُعطي صورة واضحة عن كيفية تحويل العمل الخيري إلى
مؤسسات تمتلك خططاً إستراتيجية، وأدوات قياس أثر، وبرامج خارجية منسقة، ووفق
بيانات مؤسسية، توسعت أنشطة بعض الجمعيات الكويتية لتشمل عشرات الدول، وتبنت
مشاريع تنموية طويلة المدى (تعليم، صحة، بنية تحتية)؛ وهو ما يعكس تحولاً من
المعونة العاجلة إلى التنمية المستدامة.
الأزمات كحَافِز للاحتراف.. كورونا وغزة نموذجين
الأزمات الأخيرة كانت اختباراً عملياً
للتحوّل المؤسسي، فدراسات محلية أشارت إلى تغيير سلوكيات التبرع خلال جائحة كورونا
وتزايد ميل المتبرعين لدعم مؤسسات منظمة قادرة على التنفيذ، كما أقيمت حملات
إغاثية منسقة استجابت للأزمات في غزة وغيرها، هذا الاختبار أظهر قدرة الجمعيات
الكويتية على تعبئة الموارد بسرعة وتعاون مع جهات دولية ومحلية.
تحديات ما زالت قائمة
على الرغم من التقدّم، تبقى هناك تحديات
ملموسة، منها: الحاجة لمزيد من الشفافية والحوكمة المؤسسية، وتطوير أطر رقابية
تواكب توسع المشاريع عبر الحدود، وبناء قدرات مهنية مستدامة داخل القطاع الثالث، كما
تبرز الحاجة لتوسيع قواعد المتبرعين؛ أي نشر ثقافة التبرع المنظم والرقمي بين
الشباب والشرائح المتوسطة، فهناك تقارير بيئية وقانونية تشير إلى ضرورة تحديث
الأطر التشريعية لتنظيم جمع التبرعات والوقف وضمان استدامته.
آفاق مستقبلية.. نحو دمج أكثر بين العمل الخيري والتنمية الوطنية
النقاش الحالي في الكويت يميل إلى رؤية
العمل الخيري كرافد أساسي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ شراكات مع القطاع
الخاص، واستثمار الوقف في مشاريع منتجة، وتبني أدوات رقمية لقياس الأثر، فإذا ما
وُفِّق في الجمع بين الإرث الثقافي للعطاء وسُبل الحوكمة والابتكار المؤسسي، فستظل
الكويت نموذجاً رائداً في العمل الإنساني على مستوى المنطقة، فهناك تقارير
ومبادرات بحثية (بما في ذلك شراكات أكاديمية مع مؤسسات دولية) تؤكد أن الطريق
يتطلب إستراتيجية وطنية متكاملة للقطاع الخيري.
التحول من الإحسان الفردي إلى العمل المؤسسي في الكويت ليس مجرد تغيير شكلي؛ إنه انتقال إلى عقلنة العطاء، واحتراف التخطيط، وربط العمل الخيري بأهداف إنمائية واضحة، هذا المسار يحقق مضاعفة الأثر؛ لكن نجاحه الكامل مرهون بمزيد من الحوكمة، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وربط الموارد الخيرية بمشروعات منتجة ومستدامة، الكويت، بما تملكه من تراث إنساني ورصيد اجتماعي، تمتلك المقومات لتكون ليست فقط أرضاً للصدقات، بل منصة للتنمية الشاملة.
____________________
1- Globesight
& Harvard Belfer Center— Philanthropy in Evolution
2- Global
Philanthropy Environment Index
3- تقرير عن التدفقات الخيرية.
4- تقرير عن نمو الفاعلين الخيريين في
الخليج.
5- موقع نماء الخيرية، صفحة عن المؤسسة
(نبذة ومشروعات).
6- تقارير ومقالات محلية (مجلة «المجتمع»،
«الأنباء») حول النشاط الخيري الكويتي واستجابة الأزمات.
7- بحث حول التبرعات خلال جائحة كورونا.