بعد رفض تهجير أهل غزة.. هذا هو المطلوب

كان من الجيد أن
نرى هذا الموقف العربي الصلب في رفض مبادرة أو مخطط الرئيس الأمريكي دونالد ترمب
بشأن غزة وتهجير أهلها حتى يتسنى تنفيذ مشاريع الإعمار، حسب زعمه.
هذا الموقف
العربي، الذي عبّرت عنه القمة العربية الطارئة بالقاهرة (4 مارس 2025م)، في رفض
التهجير جاء ليجسِّد لحظة إجماع مهمة، أو ما يشبه الإجماع، في وقتٍ لم نعد نرى فيه
الكثير من هذه المواقف التي تَصدر عربيًّا بهذا الشكل؛ رغم أن الاتفاق هو الأصل،
وما يجمع العربَ هو أكبر بكثير مما يفرقهم.
مبادرة ترمب بدت
خارج المعقول وخارج الإمكان لأسباب كثيرة؛ أهمها تمسُّك الشعب الفلسطيني بأرضه
وعدم استعداده للتنازل عن أي جزء منها، وإصراره على أن ما فات الكيانَ خلال عدوانه
الغاشم على غزة لـ15 شهرًا لا يمكن له أن يحصِّله بضغط أو بتهديد أمريكي.
ولأن مبادرة
ترمب خارج المعقول، فقد صدرت أصوات تطالب بعدم التعاطي بجدية معها من الأساس، فيما
فضّلت القمة العربية أن تطرح بديلاً لتقطع الطريق على ما يتجاوز المعقول، ومع هذا،
فأن يظهر موقف عربي موحد ردًّا على ترمب، فهذا أمر جيد، نثمنه، وينبغي أن يكون
بداية لعدة مواقف أخرى، سواء مما يتصل بالقضية الفلسطينية أو بغيرها من القضايا.
تمكين الشعب الفلسطيني من حقه في البقاء على
أرضه يقتضي بالضرورة تمكينه من البقاء على الحياة
والمهم بعد رفض
التهجير، وبعد أن تراجع ترمب نفسُه عن ذلك، في تصريح غريب بدا وكأنه يراهن على
ذاكرة الشعوب السمكية، إذ تنصلّ ترمب من تصريحه قائلاً: «لا أحد يريد طرد الفلسطينيين
من غزة» (12 مارس 2025م)؛ نقول: المهم أن يواصل العرب دعمهم لغزة بما يحقق لشعبها
الأبيّ الثبات والصمود، سواء ضد مخططات التهجير، أو ضد مخططات الإبادة والقتل
والحصار والتجويع، التي لم تتوقف ومستمرة في النيل بشراسة من الشعب الأعزل!
قضيتان
مهمتان
والملاحظ أن ثمة
قضيتين مهمتين لا يتسق فيهما الموقف العربي، بل وقع في التناقض معهما، رغم ما
بينهما من ترابط واضح وعلاقة لازمة.
الأولى: قضية
التهجير؛ والموقف العربي منها جيد كما أشرنا، وجاء حاسًما ومؤيَّدًا بمواقف دولية
كثيرة.
الثانية: قضية
حصار غزة وقتل أهلها بالبطيء، وإبادتهم بالحرب التي يبدو أنها لم تضع أوزارها،
والموقف العربي هنا موقف متخاذل، ولا يمكن تبريره، على الأقل إنسانيًّا
وأخلاقيًّا.
فهذا الموقف
الثاني لا يبدو غريبًا ومستهجَنًا، فقط من الناحية الإنسانية والأخلاقية، وإنما
أيضًا لأنه يبدو متعارضًا مع الموقف العربي نفسه من القضية الأولى؛ أي التهجير،
فضلاً عن صدور قرار بالدعوة لكسر الحصار من القمة العربية الإسلامية بالرياض، في
نوفمبر 2023م.
فإذا كان
المنطلق في رفض التهجير هو الحرص على الحق الفلسطيني، ودعم الشعب الفلسطيني في
التمسك بحقوقه؛ فإن هذا المنطلق يصبح أشد لزامًا في قضية رفض الحصار والتجويع
والإبادة؛ لأن التهجير، مع رفضنا له طبعًا، يتجه لنقل إنسان من مكان إلى مكان، أما
الحصار والتجويع والإبادة فتتجه لقتل الإنسان نفسه! فأيهما أولى بالرفض؟! إن تمكين
الشعب الفلسطيني من حقه في البقاء على أرضه، يقتضي بالضرورة تمكينه من البقاء على
الحياة ذاتها.
لماذا
التناقض؟
وإذا كانت قضيتا
التهجير والإبادة مترابطتين ومتلازمتين، على الأقل بالمستوى الإنساني والأخلاقي،
فمن الطبيعي أن يَرِد سؤال عن الموقف العربي من هاتين القضيتين: لماذا هو حاسم في
الأولى، متخاذل في الثانية؟!
إن هذا التناقض
مرده إلى أن البعض صار يتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها عبئًا، وهذا العبء
قد فُرض عليه بحكم الجوار، أو بقيود التاريخ العربي المشترك، أو من زاوية عدم
القدرة على مواجهة الشعوب العربية وتبرير خذلان القضية أمامها؛ فأصبح من العسير
لديه أن ينفك عن علاقات الجوار أو التاريخ أو أن يبرر لشعبه لماذا هو متقاعس عن
نصرة القضية المركزية المهمة في ذاكرة ووعي الشعوب العربية!
من كان صادقًا في رفض التهجير فعليه أن يدعم
صمود أهل غزة على أرضهم ويمدهم بكل أسباب البقاء والصمود
ومن ثم، فهذا
الموقف الذي يرى القضية الفلسطينية عبئًا، يريد أن يُبقي القضية داخل نطاقها
الجغرافي المحدود فلا تنتقل كرة اللهب لحدود أوسع، ثم هو يتواطأ مع من يحاصرها
ويبيدها، ظنًّا منه أن الوقت قد حان للتخلص من القضية برمتها بعد فناء أصحابها!
وللأسف، ثمة
شواهد كثيرة على اتساع رقعة هذا الموقف العربي الذي يتعامل مع القضية بوصفها
عبئًا، ويكفي من هذه الشواهد الحديث الكثير والممل عما قدمته الدول العربية لدعم
القضية، وكأن الدعم السابق يبرّر الخذلان الحاصل، ويغسل وصمة العار عن المتواطئين
مع مخطط الحصار والإبادة، ولم يعد أحد يذكر أن الدفاع عن القضية الفلسطينية ضد
المشروع الاستيطاني التوسعي هو دفاع عن الوجود العربي بأكمله، فضلاً عن موجبات ذلك
أخلاقيًّا وإسلاميًّا.
وثمة شاهد آخر
يتمثل في أن قطار التطبيع الذي توقف بسبب «طوفان الأقصى» يراد له أن يستأنف رحلته،
وتبدو غزة هي العقبة الكبرى أمام ذلك، فكأنّ الوقت قد حان للتخلص من هذه العقبة من
الأساس، من خلال ترك الهمجية الصهيونية تمارس أبشع أنواع القتل والإبادة.
دعم
البقاء والصمود
ولهذا يمكن
القول: إن الاكتفاء برفض التهجير، مع عدم إبداء موقف حاسم مماثل فيما يتصل بالحصار
والتجويع والإبادة؛ موقف يَظهر كما لو كان يعبّر عن أنانية وطنية لا تريد أن تتحمل
أعباء إضافية، ويتماهى مع رؤية الاحتلال في خطط الإبادة التي هي أخطر من التهجير
نفسه، أو على الأقل تؤدي للنتيجة ذاتها من حيث قتل القضية؛ فالتهجير يقتل القضية
بنقل أصحابها والتهام الأرض، والإبادة تقتل القضية بقتل أصحابها فلا تجد الأرض
حينئذٍ إنسانًا يدافع عنها.
من كان صادقًا
في رفض التهجير، وينطلق من موقف إنساني وأخلاقي، فضلاً عن الموقف الديني والسياسي،
فعليه أن يدعم صمود أصحاب القضية على أرضهم، وأن يمدهم بكل أسباب البقاء إنسانيًّا
وغذائيًّا وطبيًّا، ويا حبذا بأسباب الدفاع! وعليه أن يكون واضحًا وحاسمًا في
الموقف من الحصار والإبادة بمثل ما هو واضح في الموقف من التهجير، ونعتقد أن الدول
العربية لديها من الأوراق ما يجعلها تنجح في الموقفين معًا وبجدارة.
ولعل شهر رمضان يمثل
فرصة مناسبة لإزالة التناقض الحاصل في الموقف العربي من قضيتي التهجير والإبادة،
والتكفير عن هذه المعصية التي لا تغتفر بحق قضيتنا المركزية وشعبها الصامد الأبيّ.