توقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو يعمق الاستقطاب في تركيا

أدى توقيف السلطات التركية لرئيس بلدية إسطنبول الكبرى والقيادي في حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو لتسخين الحياة السياسية في البلاد، وتعميق الاستقطاب، واحتشاد أنصار إمام أوغلو في الشارع بدعوى أن القضايا التي يحقق معه على ذمتها استهداف سياسي له بعدِّه مرشحاً محتملاً لمنافسة الرئيس رجب طيب أردوغان، في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

قبل التوقيف الأخير، كانت رفعت ضد رئيس بلدية إسطنبول قضايا بعدة تهم، من بينها تهمة ازدراء القضاء بعد تصريح له ينتقد قرار إعادة الانتخابات المحلية في إسطنبول في عام 2019م، وقضية تتعلق بنزاهة المناقصات في بلدية حي بيليك دوزو في إسطنبول التي رأسها إمام أوغلو بين عامي 2014 – 2019م، فضلاً عن تحقيق بخصوص قانونية شهادته الجامعية، لا سيما وأن الحصول على شهادة جامعية من بين شروط الترشح للانتخابات الرئاسية.

إيقاف إمام أوغلو للتحقيق في 3 قضايا ترتبط بالفساد المالي ودعم الإرهاب و«مظاهرات جزي بارك» عام 2013م

في 19 مارس 2025م، أوقفت السلطات التركية أكرم إمام أوغلو ضمن عشرات الأشخاص من أصل 106 مطلوبين، منهم مستشارون له وسياسيون ورجال أعمال وإعلامي، للتحقيق معهم في 3 قضايا بناء على اتهامات ترتبط بالفساد المالي ودعم الإرهاب وقضية «مظاهرات جزي بارك» في عام 2013م، كما أعلن المدعي العام الجمهوري في إسطنبول عن وضع اليد على شركة «إمام أوغلو» للبناء؛ وهي شركة عائلية يملك إمام أوغلو الجزء الأكبر من أسهمها، وفق تقارير إعلامية.

في قضية الفساد المالي، يحقق مع إمام أوغلو بعدة تهم في مقدمتها «مناقصات غير قانونية في شركات تابعة للبلدية»، و«فساد في المناقصات»، و«الاحتيال»، و«السيطرة على المعلومات الشخصية بطرق مخالفة للقانون»، و«ارتكاب أعمال رشوة منظمة»، وأسندت الاتهامات، إضافة لرئيس البلدية، لشركات الإعلام والثقافة والبناء وصيانة الطرقات، وضمت لائحة المتهمين في هذه القضية مستشار إمام أوغلو ومدير حملته ومديري الشركات المذكورة وإداريين فيها ورجال أعمال وفنان معروف.

وأما القضية الثانية فمرتبطة بالإرهاب، وتعود للانتخابات المحلية الأخيرة في مارس 2024م، حيث كان حزب ديمقراطية ومساواة الشعوب (كردي) لما أسماه «توافق المدينة» الذي عنى عدم تقديم الحزب مرشحين، حيث يمكن دعم مرشح المعارضة وتحديداً حزب الشعب الجمهوري للفوز، وتحديداً في إسطنبول التي لم يقدم فيها مرشحاً لرفع فرص فوز إمام أوغلو، رأى الادعاء العام في هذا المسار هدف زيادة فاعلية حزب العمال الكردستاني في المدن الكبرى، واتهم بعض المنتخبين على قوائم الشعب الجمهوري لمجلس البلدية وبعض المعينين في البلدية كمساعدين للرئيس (إمام أوغلو) بالانتماء لمنظمات إرهابية (الكردستاني) ودعمها.

الاعتقال مثال على القضايا التي يشتبك فيها القانوني مع السياسي ويؤثر في الاقتصادي والشعبي بأشكال عديدة

وقالت صحيفة الادعاء: إن إمام أوغلو بنفسه أقرَّ قوائم أعضاء المجلس البلدي لمدينة إسطنبول؛ وبالتالي فقد اقترف جرم مساعدة منظمة العمال الكردستاني الإرهابية، بينما ادعت تقارير صحفية مقربة من الحكومة، أن إمام أوغلو دفع مبالغ مالية ضخمة للفرع الأوروبي للكردستاني لضمان عدم ترشيح زوجة القيادي الكردي المعروف والمعتقل صلاح الدين دميرطاش لرئاسة بلدية إسطنبول.

وقد وجهت الاتهامات في هذه القضية لـ7 أشخاص منهم –إضافة لإمام أوغلو- مساعد سكرتير بلدية إسطنبول الكبرى، ورئيس بلدية حي شيشلي في إسطنبول ونائبه.

وأما القضية الثالثة تعود لعام 2013م، الذي شهد مظاهرات «جزي بارك» في إسطنبول التي تحولت لأعمال فوضى وتخريب، والمتهم الرئيس فيها الصحفي المعارض إسماعيل صايماز، حيث وجه له الادعاء العام تهمة العمل على توسيع الاحتجاجات وتعميقها.

بين السياسي والقانوني

اعتقال إمام أوغلو مثال جيد على القضايا التي يشتبك فيها القانوني مع السياسي، ويؤثر في الاقتصادي والشعبي بأشكال عديدة؛ ويتهم المعارضون الرئيس أردوغان بتلفيق الاتهامات لإمام أوغلو لمنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية بعدِّه مرشحاً محتملاً وقوياً ضده، بينما يرى أنصار الرئيس أن إمام أوغلو سياسي فاسد يحاول ادعاء المظلومية للتغطية على تورطه في الفساد.

والحقيقة أنه لا يمكن أبداً تجنب الأبعاد السياسية للقضية مهما كانت مسوغاتها القانونية، بالنظر إلى شخصية إمام أوغلو، فهو رئيس كبرى بلديات البلاد التي تتجاوز ميزانيتها ميزانية عدة وزارات، وهو إلى ذلك سياسي طموح لا يخفي نيته الترشح لرئاسة البلاد، إضافة لكونه قيادياً بارزاً في أكبر أحزاب المعارضة في البلاد؛ من هذه الزاوية، ومهما كان مدى مصداقية الاتهامات ثم الحكم الذي سيصدر في النهاية ضده أو لصالحه، فالكثيرون ينظرون للقضايا من زاوية سياسية، إن لم يكن من حيث الدوافع فمن حيث التبعات.

يمكن أن ترتد القضية سلباً على الرئيس أردوغان والعدالة والتنمية في حال لم يكن المسار القانوني متماسكاً ومقنعاً

ولذلك فقد كانت حشود المعارضة في إسطنبول وتحديداً أمام مبنى البلدية الرد الأوّلي والسريع لأنصار إمام أوغلو والشعب الجمهوري، بينما تأثر سعر صرف الليرة ونشاط البورصة بشكل سلبي ومباشر بخبر الاعتقال على ذمة التحقيق بعدِّه مؤشراً على توتر سياسي في البلاد غير واضح النتائج.

الأبعاد السياسية لا تقف عند اتهام الرئيس أردوغان بتصفية حسابات سياسية مع إمام أوغلو كمرشح منافس له في المستقبل، ولكن حتى بحالة التدافع الشديدة داخل صفوف الشعب الجمهوري، فقد قاد إمام أوغلو جهود معارضة الرئيس السابق للحزب كمال كليجدار أوغلو، ثم دعم الرئيس الحالي أوزغور أوزال الذي ترشح للرئاسة، وهناك من لا يريده مرشح الحزب للرئاسة، كما أن هناك تياراً محسوباً على الرئيس السابق يبدو أنه في طور تصفية الحسابات مع الفريق الفائز برئاسة الحزب بعد أن اتهمه بتصفيته من هيئات الحزب القيادية.

ولذلك، فقد حرصت تقارير إعلامية محسوبة على العدالة والتنمية، وحتى بعض الإعلاميين المعارضين، على التأكيد أن الاتهامات الأولى والوثائق العديدة التي تدين إمام أوغلو أتت أصلاً من قيادات وشخصيات داخل حزب الشعب الجمهوري؛ الأمر الذي أدى لفتح التحقيق بهذا الخصوص.

المآلات

وفق ما سبق، يمكن -نظرياً- أن تكون الاتهامات الموجهة للقيادي المعارض حقيقية بالكامل أو جزئياً أو ملفقة، ويمكن أن يكون المسار بكامله قانونياً أو سياسياً أو استثماراً سياسياً لمسار قانوني، لكن ينبغي الإشارة إلى أن العدد الكبير من المتهمين والموقوفين والإشارات لمعترفين على إمام أوغلو من سياسيين وإداريين محسوبين على حزب الشعب الجمهوري المعارض يمنح الاتهامات مصداقية نسبية، وإن كان يتعذر الجزم بمصداقية الاتهامات والتسريبات الإعلامية أو دحضها قبل استكمال التحقيق، فضلاً عن أهمية التوقيت والسياق السياسي في البلاد كمؤشرات على البعد السياسي الحاضر.

مدى قناعة الشارع التركي بمصداقية الاتهامات سيحدد مستقبل إمام أوغلو السياسي ونتائج أي انتخابات مقبلة

ولأن الانطباعات تتغلب على الحقائق في كثير من الأحيان في عالم السياسة، سيكون المحك الأهم في استشراف مآلات القضية هو مدى قدرة السلطات التركية وخصوصاً وزارتي العدل والداخلية على إثبات الأصل القانوني والحقوقي للاتهامات الموجهة لإمام أوغلو، فذلك أجدر أن يحيّد أطيافاً مهمة من الشعب التركي (وليس بالضرورة أنصار الشعب الجمهوري)، بينما إن فشلت في ذلك فستعزز الاتهامات الموجهة للحكومة بتصفية الحسابات السياسية معه.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن موضوع «المظلومية» له رصيد لدى الشعب التركي وخصوصاً في صناديق الاقتراع، فقد ساهم حرمان أردوغان من حقوقه السياسية وسجنه بعد الأبيات الشعرية الشهيرة في بداياته في التفاف الناس حوله وتسليمه حكم البلاد في انتخابات عام 2002م.

كما كان لقرار إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى في عام 2019م دافعاً لزيادة الفارق –لصالح إمام أوغلو– في انتخابات الإعادة بشكل واضح وملموس (من قرابة 18 ألفاً إلى زهاء 800 ألف صوت) بالنظر لعدم اقتناع الكثيرين بقرار الإلغاء؛ وعليه، فإن مدى قناعة الشارع التركي بمصداقية الاتهامات سيحدد، إلى جانب المسار القانوني، مستقبل الاحتجاجات في البلاد، ومستقبل إمام أوغلو السياسي وكذلك نتائج أي انتخابات مقبلة.

كما أن نوعية الاتهامات الموجهة لإمام أوغلو، وخصوصاً اتهامات الرشوة والفساد المالي والتعاون مع منظمة إرهابية، توحي باستمرار توقيفه أو اعتقاله لمدة زمنية طويلة نسبياً، وهو ما يرجح وضع وصيٍّ من قبل وزارة الداخلية على بلدية إسطنبول الكبرى، وهو تطور من شأنه إن حصل أن يفاقم الاستقطاب السياسي في البلاد.

من جهة أخرى، يمكن أن ترتد القضية برمتها سلباً على الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية في حال لم يكن المسار القانوني متماسكاً ومقنعاً، فيتحول الأمر في نهاية المطاف إلى تقييم سلبي لهما، في العموم وكذلك في أي انتخابات مقبلة؛ ولذلك، يرى بعض أنصار العدالة والتنمية أن بعض الأطراف في الشعب الجمهوري تقصدوا توجيه الاتهامات لإمام أوغلو بحيث يتخلصون منه من جهة، ويؤثرون على مصداقية وفرص أردوغان من جهة أخرى باتهامه بالتنكيل بالمعارضة السياسية ومنافسيه، وبذلك يكونون قد أصابوا أكثر من عصفور بحجر واحد.

ولذلك، يبقى من الصعب وفق المعطيات الحالية الحكم على القضية وتطوراتها بشكل دقيق، أهي مغامرة غير محسوبة، أم مؤامرة، أم مجرد قضية قانونية عادية، أم مسار يختلط فيه السياسي بالقانوني والداخلي بالخارجي، فهذا برسم ما سيخرج من التحقيق ثم قرارات المحاكم لاحقاً، لكنها بلا شك من أكبر القضايا التي يمكن أن تؤثر في الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، اليوم وعلى المدى البعيد، تبعاً لنتائجها وتبعاتها وما سيترتب عليها.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة