11 فبراير 2025

|

دور التعليم في تحقيق النهضة اليابانية

أسامة الهتيمي

09 فبراير 2025

5224


لا شك أن عدة عوامل مختلفة ساهمت في تحقيق النهضة التي تحققت في اليابان مع بداية ما أطلق عليه عصر "ميجي" الممتد من عام 1868م وحتى عام 1912م والذي يحلو للكثيرين تعريفه بأنه فترة التحول الكبير في تاريخ البلاد حيث تم إعادة السلطة للإمبراطور "ميجي" وانتقلت خلاله البلاد من نظام الإقطاع التقليدي للساموراي "المحاربون" إلى دولة حديثة ذات طابع صناعي متقدم.

وبرز التعليم كأحد أهم هذه العوامل في تحقيق النهضة إذ نظر إليه الإصلاحيون باعتباره العمود الفقري للتحديث فسارعوا إلى تقديم أفكارهم الإصلاحية بشأنه عام 1872م ليؤسسوا لنظام تعليمي جديد.

العزلة وأثارها

لم يكن خافيا أن أخطر ما كانت تعانيه اليابان قبل بدء عصر النهضة هو العزلة التامة والانغلاق حيث اتبعت الأسرة "الشوغونية" الحاكمة (1603-1868) سياسة "ساكوكو" التي تعني "البلد المغلق" فأُغلقت الحدود تماماً لنحو 250 عاما أمام التجارة والتواصل مع معظم دول العالم باستثناء بعض الاتصالات المحدودة مع الهولنديين والصينيين في ميناء "ناغازاكي".

وبطبيعة الحال فقد كان لهذه السياسات انعكاسا سلبيا على واقع التعليم في اليابان ففضلا عن أن التعليم كان مقتصراً على أبناء "الساموراي" دون غيرهم من الطبقات الاجتماعية أهملت المناهج التعليمية آنذاك العلوم الطبيعية والتكنولوجية وكل ما يمكن أن يواكب التطورات العالمية فتركزت على الفلسفة الكونفوشيوسية والشعر والخط الأمر الذي أوجد فجوة كبيرة بين اليابان ودول العالم المتقدم.

استلهام النماذج الخارجية

عندما تمكن اليابانيون الساعون لتحقيق النهضة من الإطاحة بالأسرة الشوغونية كان شعار هذه النهضة "دولة غنية، جيش قوي" وهو الشعار الذي أدركوا منذ اللحظة الأولى أنه لا يمكن تحقيقه إلا بتعليم جيد أبعد ما يكون تحقيقه في ظل هذه الحالة من العزلة والانغلاق.

ولعل أهم ما نبه اليابانيين لأهمية التعليم هو ما تكشف لديهم من وجود بون شاسع بينهم وبين دول العالم الخارجي في عام 1853 بعدما أجبرت السفن الحربية الأمريكية اليابان على فتح موانئها للتجارة الدولية حيث تجلى وقتها مدى ضعفهم وتقدم غيرهم.

لقد كانت هذه الحادثة دافعا للإصلاحيين اليابانيين لتجاوز حدود العزلة التي فرضت على البلاد وحرمتها من التواصل مع الآخرين وخاصة البلاد الغربية فسعوا إلى استلهام التجارب والنماذج التعليمية الخارجية خاصة التجربتين الأمريكية والألمانية.

بل ربما يعجب البعض أن تكون التجربة المصرية -زمن محمد علي- نموذجا سعت اليابان للاقتداء به والاستفادة منه فعلى غرار ما قام به محمد علي من تأسيس مدارس فنية وكليات عسكرية لتدريب النخب، تبنت اليابان نظامًا تعليميًا يشمل المدارس الفنية والعسكرية التي تهدف لبناء قوة عاملة مؤهلة وقادة عسكريين مهرة.

سياسة تعليمية جديدة

كان من الطبيعي أن تلتزم النهضة اليابانية حزمة من السياسات الإصلاحية التعليمية المختلفة عما قبل النهضة والتي كان أبرز ملامحها أن جعلت التعليم إلزاميا لكل أبناء اليابان بعدما كان مقصورا على أبناء بعض الطبقات الاجتماعية وهو ما ساهم في محو أمية أغلب أبناء الشعب الياباني.

ورغم أن التعليم باليابان ومن قبل عصر النهضة كان أفضل حالا مقارنة ببقية البلدان الأسيوية حيث كانت تتراوح نسبة القراءة والكتابة ما بين 30 إلى 45% إلا النسبة كانت منخفضة مقارنة بالمعايير الحديثة لأسباب منها تفاوت مستوى المدارس بحسب الطبقة الاجتماعية فضلا عن تهميش العلوم التطبيقية الحديثة لاعتمادها على المعارف التقليدية والبدائية والأدب الكلاسيكي والفلسفة الكونفوشيوسية.

كما حرص اليابانيون وبقوة على التواصل مع الآخرين والاستفادة من علومهم بشكل مباشر عبر إرسال البعثات الدراسية لاكتساب المعرفة ونقلها لليابان فكان من أوائلها وأشهرها بعثة "إيوكورا" (1871-1873) بمشاركة 100 شخص قاموا بزيارة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا ودول أوروبية أخرى حيث استهدفت دراسة النظم السياسية والتعليمية والتكنولوجية والعسكرية لتساهم بعد ذلك في تطوير نظام التعليم.

وواصلت اليابان بعد ذلك إرسال بعثاتها الطلابية في مجالات الهندسة والطب والتعليم والقانون والعلوم العسكرية وغيرها حتى أن بعض التقديرات أشارت إلى أن عدد المبتعثين وصل لأكثر من 5 آلاف طالب حتى نهاية عهد ميجي.

كما خصصت اليابان نسبة كبيرة من ناتجها الإجمالي مقارنة بغيرها للإنفاق على المؤسسات التعليمية من المرحلة الابتدائية حتى التعليم العالي حيث بلغت في أحدث التقديرات إلى نحو 4.0%.

سمات تعليمية يابانية

وبرغم ما سبق فإن الدور الذي لعبه التعليم في تحقيق نهضة اليابان لا يتعلق باهتمام اليابان بالعملية التعليمية بشكل مجرد فحسب ولكنها اصطبغت ببعض السمات الخاصة حيث اعتبرت اليابان أن رأس مالها الحقيقي هو البشر الذين يجب أن تحسن استثمارهم.

وبدا أن اليابان قد أولت اهتماما بالغا بالعمل على الربط بين العلمية التعليمية والهدف النهضوي فمزجت بين المعرفة الحديثة والقيم اليابانية التقليدية مثل الانضباط والولاء والعمل الجماعي والترسيخ لقيم الديمقراطية والتفكير النقدي والإبداع وبذا نجحت في توظيف كل الكفاءات العملية والفنية لتحقيق التنمية المنشودة.

كما وعت لأهمية أن تكون مخرجات التعليم تلبية لاحتياجات السوق والصناعات فكانت المدارس والمعاهد التقنية وسياسة التعلم مدى الحياة من خلال التدريب لتطوير المهارات ومواكبة التغيرات التكنولوجية.

وفي اليابان يحظى المعلمون باحترام وتقدير كبيرين ويتمتعون بمكانة مميزة سواء من حيث الأوضاع المهنية أو الاجتماعية فيتحصلون على رواتب جيدة مقارنة بمتوسط دخل الموظفين بالقطاعات الأخرى فضلا عن امتيازات مالية وتقاعدية.

إنجازات تعليمية

وكما كان لإهمال التعليم أثره السلبي على واقع اليابان فإن اهتمام اليابان بالتعليم كان له نتائجه الإيجابية سواء على العملية التعليمية أو على النهضة العلمية والتصنيعية.

فعلى مستوى التعليم وبحسب بعض التقديرات التقريبية عام 2023 فقد بلغ عدد الجامعات والكليات باليابان 1200 مؤسسة فيما بلغت نسبة الالتحاق بالتعليم العالي متضمنا كليات التدريب المتخصص حوالي 80%.

كما يحصل الطلاب اليابانيون على مراتب متقدمة جدا بالمسابقات العلمية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والبرمجة والريبوتات.

وتعد الجامعات اليابانية من بين المؤسسات التعليمية الرائدة عالميًا فتحقق مراكز متقدمة في التصنيفات الدولية ومن ذلك جامعة طوكيو وتحتل المركز 23 عالميًا وجامعة كيوتو وتحتل المركز 47 عالميا.

أما على مستوى النهضة فليس مستغربا أن تتمكن اليابان ومن خلال سياساتها التعليمية أن تصبح واحدة من أكثر الدول تقدما وأن يحتل ناتجها القومي الإجمالي مرتبة متقدمة عالميا فيما تتمتع العلامات التجارية اليابانية مثل «تويوتا» و«سوني» «فوجي فيلم» و«باناسونيك» بشهرة واسعة وسمعة جيدة.

وقد لاقت التجربة التعليمية اليابانية إشادات عديدة من قادة العالم ومنها ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما: "نحن ننظر بإعجاب إلى نظام التعليم في اليابان، حيث يتم الجمع بين الانضباط الأكاديمي والتنشئة الأخلاقية. لقد أظهرت اليابان كيف يمكن للتعليم أن يكون حجر الأساس في بناء اقتصاد قوي ومجتمع متقدم."

وقال لي كوان يو "مؤسس نهضة سنغافورة": "تعلمت من اليابان كيف يمكن لنظام تعليمي صارم ومنظم أن يصنع أمة قوية. مدارسهم لا تُخرج فقط علماء بل مواطنين ملتزمين بالقيم والعمل الجاد." فيما وصف البنك الدولي التعليم هناك قائلا: "التعليم في اليابان ليس مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل هو قوة محركة للنمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام."

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة