11 فبراير 2025

|

لماذا لا نتعلم من النموذجين التركي والماليزي؟

منى حامد

11 فبراير 2025

1099

 

عندما نستعرض مسيرة التعليم في بلدان عالمنا العربي نجد أنفسنا أمام إشكالية عميقة، تتعلق بكيفية مواكبة العلم للإيمان، باعتبار أن الدنيا في ديننا هي مزرعة الآخرة، وأننا مطالبون بأن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا ولآخرتنا كأننا نموت غدا، والسؤال هنا: كيف يمكن أن نضمن هذه المواكبة دون إفراط أو تفريط في نظمنا التعليمية؟

سؤال واحد وتجارب شتى

لطالما كان هذا السؤال محورا لجهود العديد من بلداننا، لكن قلة منها نجحت في تحقيق التوازن المنشود، منها تركيا وماليزيا، حيث قدمت كل منهما نموذجا ملهما في هذا المجال، بينما لا تزال العديد من الدول العربية تعاني من فجوة تعليمية كبيرة.

الموقف من التراث

وفي تقديري، يمكن القول بأن الموقف من التراث يمثل محورا في هذا الإطار، فتراثنا الإسلامي شاهد تاريخي على إمكانية دمج العلم والدين في حضارة "مدنية" قدمت إسهامات علمية غير مسبوقة، من ابن سينا في الطب إلى الخوارزمي في الرياضيات وابن الهيثم في الفيزياء، لكن مع هيمنة الاستعمار الغربي تغيرت المعادلة، وجرى استبدال نظم تعليمية منفصلة عن هويتنا الإسلامية بنظمنا التعليمية، التي كانت تعتمد على الكتاتيب والمدارس الدينية.

هذا التحول ترك أثرا عميقا في بلداننا على مدى عقود القرنين العشرين والحادي والعشرين، بتكوين أجيال تتلقى تعليما منبت الصلة عن إيمانها، وأصبح التعليم ساحة لصراع بين تيارين متطرفين، أحدهما حداثي يرفض التراث بالكامل، والآخر يعتنق التدين ويبرر به الانغلاق التام على ما أنتجه الأولون وفق نظرية "غلق باب الاجتهاد"، في محاولة لمواجهة الفوضى الفقهية، منذ القرن الخامس الهجري، والتي تنامت إلى حد الجمود وتواكبت مع صعود سريع للحضارة الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين.

يمثل نموذج تركيا وماليزيا خروجا من شرنقة هذه الثنائية، إذ قدم كل منهما نظاما تعليميا لا يخاصم إيمان الشعب، خاصة في نسخة نهضة كل منهما في العقود الثلاثة الأخيرة.

 

العدالة والتنمية

رغم ما فرضته العلمانية في واقع الشأن العام التركي، فلم تنقطع تركيا تماما عن جذورها الإسلامية، وهي الجذور التي استندت إليها تجربة النهضة في تجربة حكم "العدالة والتنمية"، فيما اعتمدت ماليزيا على سياسة التوازن بين الهوية الإسلامية والتعددية الثقافية، مما جعلها نموذجًا فريدا في العالم الإسلامي.

 

بدأت تركيا مسيرتها التعليمية الحديثة مع سياسات فرضها مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي، بهدف بناء دولة علمانية، تحظر المدارس الدينية، مثل الكتاتيب، التي تم إلغاؤها، وتوحيد النظام التعليمي تحت مظلة الدولة التي فصلت التعليم تماما عن مناهج الدراسة، لكن مع مرور الوقت، ومع صعود الصحوة الإسلامية في تركيا خلال العقود الثلاثة الماضية، جرت مراجعة هذا النهج، وهي المراجعة التي تعود جذورها إلى سبعينيات القرن العشرين، عندما عادت المدارس الدينية، وعلى رأسها مدارس إعداد الأئمة والخطباء لتلعب دورا محوريا في نظام تعليمي جديد.

واليوم تقدم تركيا نموذجا تعليميا رائدا يزاوج بين القيم الإسلامية والعلوم الحديثة، وأصبحت جامعات تركية، مثل إسطنبول التقنية وبوغازيتشي، تحتل مراتب متقدمة عالميا، وذلك بعدما استثمرت تركيا بشكل كبير في التكنولوجيا والبحث العلمي.

ووفقاً لمؤشر QS العالمي لتصنيف التعليم، تعد تركيا من أفضل 50 دولة للدراسة في الخارج، حيث تتمتع جامعاتها باعتراف دولي واسع، وتقدم منحا دراسية للطلاب الدوليين، بما في ذلك الطلاب العرب الذين يشكلون 39% من إجمالي الطلاب الأجانب لديها، وتتبنى سياسات تعليمية تعزز الهوية الدينية، مثل برامج وقف المعارف التركي الذي ينشط في 55 دولة لنشر التراث التعليمي والثقافي الإسلامي.

 

تعليم فني

أما ماليزيا، فنجحت في بناء نظام تعليمي يعكس التنوع الثقافي والعرقي للبلاد منذ الاستقلال، وعملت على توحيد نظامها التعليمي مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، وأصبحت الجامعات الماليزية، مثل مالايا وبوترا، تتمتع بسمعة عالمية، وتتعاون مع جامعات أجنبية لتعزيز جودة التعليم.

واحدة من أبرز سمات النظام التعليمي الماليزي هي التركيز على "التعليم الفني والمهني"، وقد ساهم هذا النهج في مواكبة سوق العمل وتلبية احتياجات الاقتصاد الحديث، مع تبني مفهوم "التعليم الإسلامي المدمج"، حيث يتم تدريس مادة "التعليم الإسلامي" كمادة إلزامية، مع الحفاظ على مناهج علمية متطورة.
 

معضلة الازدواجية

في المقابل، يعاني النظام التعليمي في بلداننا العربية من عدة إشكاليات، على رأسها استمرار الازدواجية الواضحة بين التعليم الديني التقليدي والتعليم الحديث، ففي مصر، على سبيل المثال، لاتزال المدارس الأزهرية تلعب دورا كبيرا في التعليم الديني، لكنها تعاني من انفصال عن المناهج العلمية الحديثة، بينما تهيمن حالة معاكسة على مدارس ما يسمى بالتعليم المدني.

المركزية والبيروقراطية

ولاتزال كثير من نظمنا التعليمية العربية تعتمد على المركزية والبيروقراطية، مما يجعلها غير مرنة وتعتمد على التلقين بدلا من الإبداع، فضلا عن ضعف الاستثمار في التعليم، حيث يتم تخصيص ميزانيات ضئيلة لوزارات التربية والتعليم، بينما يتم إنفاق مليارات الدولارات على المشاريع العسكرية على سبيل المثال، وأدت هذه الأوضاع إلى ترد في جودة التعليم بعالمنا العربي وارتفاع معدلات الأمية في بعض بلداننا، في وقت يعيش فيه العالم عصر ما بعد الذكاء الاصطناعي.


الاستقرار السياسي كقاعدة للنهوض

إن نظرة تأمل عميقة لتجربة تركيا وماليزيا تجعلنا نستخلص عدة دروس مهمة، منها أهمية الاستقرار السياسي ووجود رؤية طويلة المدى باعتبارها أساسا لنجاح أي نظام تعليمي، وضرورة المواءمة بين الهوية والعلم، والاستثمار في البنية التحتية والتعليم المهني، وتركيز الجهود على استخدام وسائل التقنية الحديثة والمنصات الرقمية، بما يساهم في تحسين جودة التعليم.

 

إصلاحات جذرية

غير أن تحقيق تقدم مماثل لما جرى في تركيا وماليزيا في عالمنا العربي يتطلب تبني الدول العربية لإصلاحات جذرية، وتطوير استراتيجيات تعليمية بعيدة عن التقلبات الحزبية والأجندات السياسية، وإعادة بناء المناهج لتعكس الانتماء الإسلامي دون عزل العلوم، والاستثمار في البحث العلمي وتدريب المعلمين كأساس في عملية تحسين جودة التعليم.


التوعية المجتمعية

ولا يمكن تحقيق ذلك دون التوعية المجتمعية التي تلعب دورا رئيسا في نجاح أي إصلاح تعليمي، ومنها حملات التوعية لإقناع الأسر بأهمية فكرة "التعليم المدمج" والحذر من خطر الاقتصار على تعليم يرسخ الإيمان فقط، أو آخر يبني العقل العلمي دون وازع من ضمير يقظ وأخلاق حاكمة.

التعليم هو مفتاح تقدمنا، والدول العربية لديها الإمكانات لتحقيق النجاح فيه، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية ورؤية واضحة، وتعلم الدروس من تجارب دول أخرى كتركيا وماليزيا، والإيمان بأن هويتنا ليست نقيضا لتقدمنا.

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة