ما زال في الوقت متسع!
تشهد وزارة التربية في الكويت مرحلة دقيقة ومفصلية في تاريخها، إذ تعاني من تراكمات إدارية ومالية أثرت سلبًا على أداء المنظومة التعليمية؛ ما يجعل الحاجة إلى الإصلاح أمرًا ملحًا أكثر من أي وقت مضى.
في خطوة جريئة تعكس جديته في التعامل مع هذه التحديات، أعلن وزير التربية م. جلال الطبطبائي عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بشأن تجاوزات مالية قُدرت بنحو 12 مليون دينار، هذه الخطوة، وإن كانت ضرورية لكشف الحقائق وتصحيح المسار، فإنها لن تكون كافية ما لم يتم اتخاذ إجراءات شاملة تعالج جذور المشكلات التي تعاني منها الوزارة منذ سنوات، تجاوزات بهذا الحجم لم تحدث فجأة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة الأمد نتجت عن غياب الرقابة الفعالة والتخبط الإداري؛ ما يستوجب إعادة النظر في النهج الإداري بأكمله، وليس فقط في بعض الملفات.
غياب الاستقرار الإداري في الوزارة كان له أثر كبير في تفاقم الأزمات، حيث أدت التغييرات المستمرة في القيادات إلى خلق بيئة غير مستقرة، تتداخل فيها المصالح وتتكرر فيها الأخطاء دون محاسبة واضحة، فمنذ سنوات، و«التربية» تشهد تعيين مسؤولين جدد كل فترة قصيرة؛ ما جعل من الصعب تنفيذ خطط طويلة الأمد أو تحقيق رؤية إستراتيجية واضحة، كل وزير جديد يأتي برؤيته الخاصة، ومع رحيله تتغير الأولويات وتختفي المشاريع السابقة؛ ما أوجد حالة من الضبابية أثرت على جودة التعليم وعلى أداء المعلمين والإداريين.
إن تكرار هذه الأخطاء دون البحث عن حلول جذرية يعني أن المشكلة لن تحل، بل ستتفاقم مع مرور الوقت، خصوصًا إذا استمر النهج القائم على تدوير ذات الأسماء التي سبق أن فشلت في تحقيق الإصلاح المطلوب.
إعادة الوجوه القديمة إلى مناصبها بحجة الخبرة لا يمكن أن يكون حلاً لأي أزمة، التجربة أثبتت أن كثيرًا من هذه القيادات لم تحقق نتائج إيجابية خلال توليها مناصبها في السابق، فلماذا يتم الرهان عليها مرة أخرى؟ الإصلاح الحقيقي لا يكون بإعادة تدوير الفشل، بل بإحداث تغيير جذري في آلية التعيينات، بحيث يتم اختيار الكفاءات وفق معايير شفافة وواضحة بعيدًا عن المجاملات والمحسوبية.
أي خطة إصلاحية يجب أن تستند إلى أسس علمية وتقييمات دقيقة لأداء القيادات، بدلاً من الاعتماد على أسماء أثبتت التجربة عدم قدرتها على إحداث أي فرق يُذكر، فهناك كفاءات وطنية شابة تمتلك المؤهلات والقدرة على تقديم أفكار جديدة، لكنها لم تحصل على الفرصة بسبب استمرار سياسة الاعتماد على ذات الأسماء التي تكررت على مدى العقود الماضية.
الكفاءات الوطنية هي الأساس في أي عملية إصلاح، لكن ما يجري في وزارة التربية لا يعكس هذا التوجه، ففي الوقت الذي تحتاج فيه المنظومة التعليمية إلى تطوير شامل، تفاجأ المجتمع التربوي باستمرار الاستعانة بأسماء خليجية في مناصب حساسة، بعضها يرتبط بعلاقات شخصية مع مسؤولين سابقين في الوزارة، هذا النهج يثير تساؤلات حول مدى جدية الإصلاح، فكيف يمكن تحسين التعليم والكوادر الوطنية لا تحصل على فرصها، بينما يتم استقدام أسماء من الخارج لم تثبت كفاءتها في تطوير التعليم في بلدانها نفسها؟
الكويت تمتلك طاقات تعليمية وأكاديمية متميزة قادرة على إحداث الفارق، لكن هذه الطاقات تحتاج إلى من يؤمن بها ويفتح لها المجال للمشاركة الفاعلة في عملية التطوير، لا يمكن بناء نظام تعليمي قوي إذا لم يكن أبناء الوطن أنفسهم هم الأساس في إدارته وتطويره.
لا يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي دون تمكين الشباب الكويتي وأهل الميدان التعليمي، فهم الأقدر على تشخيص المشكلات وإيجاد الحلول المناسبة، هؤلاء المعلمون والمشرفون والإداريون الذين يعملون في المدارس يوميًا، ويعيشون التحديات على أرض الواقع، لديهم أفكار عملية وقابلة للتنفيذ إذا ما أُعطيت لهم الفرصة، وتجاهل هذه الفئة والتركيز على نظريات الإصلاح من خلف المكاتب لن يؤدي إلا إلى مزيد من التراجع، فالإصلاح يجب أن يكون عملية تشاركية، تعتمد على استشارة أهل الميدان وأخذ مقترحاتهم بجدية، وليس مجرد فرض قرارات من الأعلى دون معرفة مدى واقعيتها وإمكانية تطبيقها.
وزير التربية م. جلال الطبطبائي أمام اختبار حقيقي، فإما أن ينجح في إحداث التغيير الذي طال انتظاره، أو أن يصبح جزءًا من دورة التدوير التي استمرت لعقود دون نتائج ملموسة، فالأمل لا يزال موجودًا في أن تكون هذه المرحلة نقطة تحول حقيقية، لكن الأمر يتطلب قرارات جريئة وصارمة لمواجهة كل من يحاول عرقلة الإصلاح، فهناك أطراف اعتادت على الفوضى الإدارية وتستفيد من حالة التراخي، وهي بلا شك ستعمل على إفشال أي محاولة جادة للتغيير، قدرة الوزير على التصدي لهذه العراقيل ستحدد مدى نجاحه في نقل الوزارة إلى مرحلة جديدة من الأداء الفعّال.
ورغم كل هذه التحديات، لا يزال في الوقت متسع لإنقاذ التعليم في الكويت، شرط أن يتم التحرك بشكل سريع وحاسم، والتردد أو التهاون في اتخاذ القرارات لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات، بينما الجرأة في الإصلاح ستفتح المجال أمام مستقبل تعليمي أفضل للأجيال القادمة.
الكويت تستحق نظامًا تعليميًا متطورًا يليق بمكانتها، وأبناؤها يستحقون تعليمًا حديثًا يواكب تطورات العصر، إذا وُجدت الإرادة الحقيقية للتغيير، فلن يكون النجاح مستحيلاً، ولكن إذا استمرت السياسات القديمة، فلن يتغير شيء، وسيبقى الوضع كما هو عليه لعقود أخرى، الأيام المقبلة ستكون حاسمة، فإما أن تُكتب بداية جديدة للإصلاح، أو أن يبقى كل شيء على حاله، وما زال في الوقت متسع لاتخاذ القرار الصحيح.