ربيع الأول شهر الأحداث العظام

شهد شهر ربيع الأول أحداثًا عظامًا كان لها الأثر الكبير على الأمة الإسلامية، بل على العالم
أجمع، وتحدث الخطباء وكتب الكتاب وما زالوا عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع
أهمية المولد ودلالاته الجميلة لأهل الأرض قاطبة، فإنه ليس الحدث الأبرز أو الأكثر
أهمية في شهر ربيع الأول، فهناك حدث الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة
المنورة، وكذلك حدث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى،
وتلك هي أعظم أحداث شهر ربيع الأول.
حدث الهجرة المباركة
بدأت أحداث
الهجرة الحقيقية بعد اجتماع دار الندوة الشهير، واتخاذ قرارهم المصيري بقتل النبي صلى
الله عليه وسلم بضربة جماعية قاضية، وكان ذلك في اجتماعهم يوم السادس والعشرين من
شهر صفر بداية العام الرابع عشر من البعثة المحمدية، وذلك في دار الندوة برئاسة
أبي جهل، ويبين ما خرجوا به من اجتماعهم قول الله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ
أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30).
وهنا ينزل جبريل
عليه السلام لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى ويأمره بألا يبيت في فراشه
هذه الليلة، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة السابع والعشرين من شهر صفر
إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتبدأ رحلة الهجرة المباركة.
النبي في المدينة المنورة
ووصل النبي صلى
الله عليه وسلم بعد 12 يوماً من الجهاد المضني في هذه الرحلة، واستقر يوم الإثنين
الثامن من ربيع الأول.
وذكر الشيخ صفي
الرحمن المباركفوري: قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر
ربيع الأول.. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء 4 أيام؛ الإثنين،
والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على
التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس -يوم الجمعة- ركب بأمر الله له، وأبو
بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار -أخواله- فجاؤوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو
المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن
الوادي، وكانوا مائة رجل.
وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة -ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصراً- وكان يوماً تاريخياً أغر، فقد
كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس(1).
المدينة المنورة وقيام دولة الإسلام
كانت رمزية
الهجرة في شهر ربيع الأول وأهميتها تكمن في أن حدث الهجرة من أهم المعجزات التي
حدثت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن الهجرة كانت في الأساس لإقامة دولة
الإسلام، وهذا أعظم ما في الهجرة، ولذلك لما أراد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
أن يضع تاريخًا للمسلمين لم يجد أفضل من الهجرة ليبدأ به التاريخ الإسلامي.
وما أن وصل
النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حتى شرع على الفور في بناء المسجد النبوي
الشريف، وكان بناء المسجد إيذانًا ببناء الدولة، فالمسجد هو ركيزة الدولة الأولى
لما له من قدسية العبادة لله تعالى فيه، ثم هو مجتمعهم وناديهم ومسرح أحداثهم بعد
أداء العبادات.
ومن ركائز
الدولة أيضًا أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وذلك من
أهم الأمور بعد بناء المسجد الذي كان يجمع الجميع تحت سقفه، فالمؤاخاة شكلت أمة
واحدة متماسكة من أول يوم في بداية الدولة الحديثة.
ثم أمن النبي صلى
الله عليه وسلم مدينته بما أبرمه من معاهدات مع اليهود؛ وذلك لعلمه صلى الله عليه
وسلم أنهم شوكة في حلق المسلمين، فأراد أن يلجمهم بميثاق المدينة الجديد، ولأجل أن
يذعنوا بموافقتهم على المعاهدة بسيادة المسلمين، ويعترفوا بالقائد الجديد الذي وفد
عليهم من مكة صلى الله عليه وسلم، سواء آمنوا به أم لم يؤمنوا، وحتى يتخلص منهم
قبيلة بعد الأخرى حسب غدرهم وخيانتهم، دون أن يواجههم دفعة واحدة.
النبي إلى الرفيق الأعلى
وفي شهر ربيع
الأول من العام الحادي عشر من الهجرة، وهو يوم الإثنين، قبض النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الضحى، قال العلامة المباركفوري: روى أنس بن مالك: أن المسلمين بينا
هم في صلاة الفجر يوم الإثنين -وأبو بكر يصلي بهم- لم يفجأهم إلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك،
فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن
يخرج إلى الصلاة.
فقال أنس: وهمّ
المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم
بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر ثم
لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.. ورأت فاطمة ما برسول
الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، فقالت: واكرب أباه! فقال
لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم.. وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها.. وكانت
تقول: وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول:
«لا إله إلا الله، إن للموت سكرات» وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو
إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: «مع الذين
أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني،
وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى»، كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت
يده ولحق بالرفيق الأعلى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقع هذا الحارث
حين اشتدت الضحى من يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ(2).
ماذا عن وفاته في ربيع الأول؟
لا شك أن وفاته
كانت مأساة ومصيبة عظمى على الصحابة جميعًا وعلى فاطمة ابنته؛ لذا قالت يوم موته:
صُبَّتْ عَلَيَّ
مصائبٌ لو أنها صُبَّتْ على الأيام
صرن لياليا
ومع ذلك المصاب
العظيم للمسلمين يومئذ، إلا أن ذلك اليوم كان أسعد يوم لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقد التقى فيه بخليله سبحانه وتعالى.
يوم الإثنين وشهر ربيع الأول
هذه الأحداث
الثلاثة وهي مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ووصوله إلى المدينة واستقراره بها،
ولحوقه بالرفيق الأعلى، كلها وقعت يوم الإثنين، وكلها وقعت في ربيع الأول، فما
أجمل هذا اليوم وما أجمل هذا الشهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم!
__________________
(1) الرحيق
المختوم، ص155- 156.
(2) المرجع
السابق، ص429- 431.