رمضان في السودان تحت زخات الرصاص

يحاول الشعب السوداني، المشتت في مناطق النزوح، خلال شهر رمضان، التماسك أمام هول ما أصابهم من تلك الحرب اللعينة التي دخلت بيوتهم، وأفقدتهم ذويهم، ومساكنهم، وذكرياتهم، وتلك الاحتفالات البهيجة التي امتاز بها الشعب السوداني في شهر الصوم.

كانت قوافل الدعم والمصالحات وليالي الذكر تعم السودان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله، ومن غربه إلى شرقه، حيث تختفي تقريبًا تلك الجرائم المعتادة في بقية شهور العام لتعم بدلاً منها مظاهر التسامح والحب والتعاطف والتكافل بين جميع أفراد الأسرة والقبيلة السودانية، ولكن رمضان هذا العام اختلف عن العام السابق الذي كان حزينًا بشكل لم يكن له مثيل على أبناء الشعب السوداني، حيث كانت تكسب قوات التمرد مدناً جديدة، وتستولي على بيوت وأموال الشعب السوداني، ولم يكن الجيش قد أمسك بعد بزمام المبادرة.

«المجتمع» ترصد أحوال النازحين السودانيين في رمضان مع استمرار الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع».

معاناة النازحين

بحسب تقرير صادر عن المنظمة الدولية للهجرة في يناير 2025م، ارتفع عدد النازحين في السودان إلى نحو 15 مليون نازح نتيجة النزاع المستمر منذ أبريل 2023م، ومن بين هؤلاء، هناك حوالي 11.5 مليون نازح داخليًا، بينما عبر أكثر من 3.3 ملايين شخص الحدود إلى دول الجوار.

وتشير هذه الأرقام إلى أن أكثر من 30% من سكان السودان البالغ عددهم 47.5 مليون نسمة قد تأثروا بالنزوح؛ ما يضع البلاد في مواجهة أزمة إنسانية غير مسبوقة.

وتظهر البيانات أن 31% من النازحين فروا من العاصمة الخرطوم، تليها ولاية جنوب دارفور بنسبة 18%، ثم ولاية شمال دارفور بنسبة 15%.

ويعيش هؤلاء النازحون في أكثر من 10 آلاف موقع داخل السودان، ويواجهون أوضاعًا إنسانية صعبة نتيجة ضعف الاستجابة الإنسانية وتدمير سبل العيش في المناطق الريفية والحضرية.

أصوات المدافع تحول دون انعقاد حفلات الإفطار الجماعي

ومع حلول الشهر الكريم هذا العام، تراجعت إلى حد كبير خاصة في مخيمات دارفور مظاهر الاحتفالات التي اعتاد السودانيون إقامتها، وإظهار فرحتهم بالشهر الكريم، وعلى رأسها الإفطار والسحور الجماعي، حيث حرمت أصوات المدافع والطلقات النارية النازحين من التجمع، بل تعمدت قوات التمرد إطلاق هذه القذائف متزامنة مع وجبات الإفطار والسحور، وهو أيضًا ما أظهر نقصًا كبيرًا في الوجبات وتوفير المياه الصالحة للشرب.

وقد أشارت بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أن 95% من النازحين يعتمدون على المساعدات الغذائية الطارئة، بينما حذرت منظمة «يونيسف» من أن 40% من الأطفال النازحين يعانون من سوء التغذية الحاد.

وقد رصدت بعض الفضائيات السودانية إقامة النازحين لصلاة التراويح تحت الشموع، بعد أن أدت هجمات التمرد إلى قطع الكهرباء في مناطق كثيرة من أنحاء السودان خاصة بعد الاستخدام المفرط للطائرات المسيرة التي تستهدف محطات الكهرباء بشكل خاص.


اقرأ أيضاً: رمضان في السودان.. الزفة والحضرة الصوفية و«الموركي»


ويحاول النازحون تحدي الجوع والظلام والطائرات المسيرة بالخشوع والتوجه إلى الله في هذا الشهر الفضيل؛ تمسكًا بقيمهم الإسلامية التي ترتفع إلى أعلى درجاتها في أوقات الأزمات.

مخيم زمزم

تستمر معاناة ملايين النازحين في المخيمات، والمدارس، والمؤسسات الخدمية داخل السودان، دون أي اعتبارات للشهر الكريم الذي اعتاد فيه المسلمون على التسامح، وتوقير الشهر بوقف القتال فيما بينهم.

ومن بين عشرات المخيمات التي تشهد اعتداءات متكررة من المتمردين، يمكن الإشارة إلى مخيم زمزم الواقع في شمال دارفور، الذي يضم نحو نصف مليون نازح، حيث شهد في الأيام الأولى للشهر الفضيل تصاعدًا في عمليات استهداف النازحين؛ ما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية فيه.

وأفاد بيان مختصر في الثالث من مارس الجاري، لحركة جيش تحرير السودان بزعامة حاكم دارفور مني أركو مناوي، بأن «قوات الدعم السريع» هاجمت عدداً من القرى التابعة للمخيم؛ ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد من النازحين وفرار العشرات منهم.

وأوضح الباحث السوداني مكي مغربي أن عمليات التمرد على مخيم زمزم للنازحين، وجميع المخيمات في السودان تعرقل عمل فرق التطوع التي تقوم بتوفير وجبات الإفطار والسحور لهؤلاء المحتاجين، كما أنها تعرقل وصول مواد الإغاثة، إضافة إلى تشتيت الأسر، وتعرضها لخطر القتل والاختطاف على أيدي قوات التمرد التي تهاجم المخيمات دون الاستناد إلى أسباب عسكرية، أو إستراتيجية، وهي فقط تفعل ذلك من باب إشاعة الفوضى والخوف بين الناس الفارين من بيوتهم ومدنهم.

وباعتبار مخيم زمزم أحد أبرز مخيمات النزوح التي تستهدفها «الدعم السريع»، فقد شهد هذا المخيم استنكارًا من العديد من منظمات الإغاثة لتلك الاعتداءات المتكررة، حيث اقتحمت «الدعم السريع» المخيم، في 11 فبراير الماضي؛ ما أسفر عن اشتباكات مع الجيش السوداني ونزوح حوالي 10 آلاف أسرة خلال يومين فقط.

ونتيجة لتدهور الوضع الأمني، أعلنت منظمة أطباء بلا حدود، في 24 فبراير الماضي، تعليق أنشطتها في المخيم، مشيرة إلى انعدام الأمن وتصاعد العنف.


 

كما اضطر برنامج الأغذية العالمي، في 26 فبراير، إلى تعليق عملياته في المخيم ومحيطه بسبب تصاعد العنف؛ ما زاد من معاناة النازحين الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وفي 27 فبراير، طالب البرنامج بوقف القتال لاستئناف تقديم المساعدات إلى المخيم وقرى الفاشر.

مبادرات خيرية

ويبدو أن الشهر الكريم ينتج دائمًا معه أشكالًا للنصر يتحدى بها المسلمون الحرب والحصار والمجاعة، فقد أبدع الشباب السوداني تجارب بدأت مع الحرب وتستمر حتى الآن في مواجهة آثارها، وخاصة في الشهر الكريم.

متطوعون يقومون بتجهيز وتوزيع «كيس الصائم» يوميًا

وعلى الرغم من تقاعس المنظمات الدولية عن دخول المخيمات لإطعام الجوعى، والمحتاجين، خوفًا من هجمات التمرد، فإن المجتمع السوداني أوجد شبابًا قادرين على تحدي قذائف المدافع والنفاذ إلى قلب مخيمات النزوح عبر مبادرات متعددة، من بينها:

- في مدينة بورتسودان، شرقي البلاد، التي يتخذها مجلس السيادة عاصمة مؤقتة للسودان الآن، نشطت مجموعة شباب منتدى الواحة الوفيرة للتكافل، حيث تقوم بتجهيز وتوزيع «كيس الصائم» يوميًا طوال رمضان، الذي يتضمن مواد غذائية تكفي لعدة أيام، وتستهدف مراكز إيواء النازحين، ونزلاء السجون.

- وفي مدينة القضارف، بالشرق أيضًا، ينشط شباب حي أركويت في تقديم الدعم للنازحين من ولايتي الجزيرة وسنار، حيث تقدم مبادرتهم وجبات الإفطار لأكثر من 1500 أسرة نازحة تقيم في مراكز الإيواء والأحياء الجنوبية.


اقرأ أيضاً: التجربة السودانية في التكافل الاجتماعي


- ومحاولة للتخفيف عن النازحين، خلال الشهر الفضيل، نظم عدد من نجوم الدراما السودانية سهرات فنية وعروضًا كوميدية في مراكز الإيواء بولاية النيل الأبيض، بهدف إدخال البهجة والسرور إلى قلوب النازحين، بالإضافة إلى توزيع سلال غذائية عند نهاية العروض.

- ولم تغب الخرطوم عن جهود المتطوعين رغم اشتعال الحرب في جميع أنحائها، فقد نجح عدد من الشباب في تنظيم حملة «إفطار صائم»، وتوزيع وجبات ومواد تموينية جافة مثل السكر والأرز والعدس على عدد كبير من النازحين في مراكز الإيواء.

وقد أظهرت هذه المبادرات الوجه المشرق للمجتمع السوداني في ظل التحديات الراهنة، حيث يتكاتف الأفراد والجماعات لتقديم الدعم والمساندة للمتضررين، مجسدين قيم التكافل والتراحم التي يتميز بها رمضان.

وهكذا يبدو أن رمضان في مخيمات النزوح السودانية ليس مجرد شهر للصيام، بل اختبار لإرادة البقاء وإثبات أن الإيمان والإنسانية يمكنهما أن ينتصرا حتى في أحلك الظروف.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة