العقل.. بين التمرد والانضباط

في زمان تموج فيه العقول بمختلف الأفكار، وتتنازعها التيارات المتباينة، يصبح التفكير الناقد ضرورة لا غنى عنها، لا لصناعة الفرد المستقل فحسب، بل لضمان مجتمع واع قادر على فرز الحقائق من الأباطيل، غير أن هذه المهارة الرفيعة، إن لم تكن مؤطرة بحكمة المربين وعمق إدراكهم، قد تتحول من نعمة إلى نقمة، ومن نور يهدي إلى طريق الحق إلى شعلة تحرق كل ثابت وراسخ من القيم والدين والقانون.

ليست دعوة التفكير الناقد بدعة مستحدثة، ولا وليدة عصر متحرر من القيود، بل هي جوهر أصيل في النصوص الإسلامية التي دعت الإنسان إلى النظر والتأمل والتدبر، ففي كتاب الله العظيم، نداء للقلوب والعقول أن تتفكر، أن تتدبر، أن تسبر أغوار الحقيقة ببصيرةٍ ثاقبة لا تنساق وراء الأهواء ولا تركن إلى التقليد الأعمى؛ (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24)، سؤال ينادي العقل الإنساني ليكسر الأقفال، لكن ليظل في إطار الحكمة والاتزان، لا أن يجرفه التمرد نحو التيه.

كيف نربي أبناءنا ليكونوا أصحاب عقول مفكرة، متقدة بالذكاء، قادرة على النقد والتحليل، دون أن ينحرفوا إلى مسار الخروج على الثوابت والاستهانة بالموروث؟

البداية تكمن في غرس روح السؤال لديهم، لكن السؤال الذي ينبع من شغف البحث، لا من رغبةٍ في الجدل، ومن حب المعرفة، لا من نزعة التشكيك العقيم، فالطفل الذي يُدرَّب على أن يسأل بوعي، وعلى أن يبحث لا ليهدم، بل ليبني، سيكبر وهو يدرك أن الحرية العقلية لا تعني الفوضى الفكرية، بل تستلزم مسؤولية مضاعفة.

للتفكير الناقد أصوله، وأولها تعليم الطفل كيف يوازن بين الحجج، وكيف يستمع للرأي المخالف دون أن يسارع إلى رفضه أو تقبله قبل أن يُعمل فيه عقله، فكما يحتاج الجسد إلى غذاء صحي، تحتاج العقول إلى غذاء فكري متزن، بعيد عن المغالطات العاطفية والاستنتاجات المتسرعة، ومن هنا، كان لا بد من توجيه الطفل نحو التحقق من المعلومات، والبحث عن مصادر موثوقة، وألا يكون صدى لكل ما يُلقى إليه من أفكار دون تدقيق.

لكن العقل الناقد قد ينقلب على صاحبه إن لم يُصقل بأدب الخلاف، وإن لم يُهذب بروح الاحترام، فالتربية الحقيقية لا تصنع ناقداً هدّاماً، بل مفكراً بناءً، يدرك أن الاختلاف لا يعني العداء، وأن تعدد الآراء لا يستلزم الصراع، فكما أن البحر يحمل أمواجه المتضاربة دون أن يخرج عن مجراه، كذلك العقول يجب أن تتسع للنقاش دون أن تفقد بوصلتها الأخلاقية.

ومن حكمة التربية أن يدرك الطفل منذ نعومة أظفاره أن حرية التفكير لا تعني الخروج على القيم، وأن العقل المستنير لا يكون منيراً حقاً إلا إذا كان مؤطراً بالمبادئ التي تحفظه من الانزلاق إلى هاوية التمرد غير الواعي، فالعقل الذي يجادل دون ضابط، كفرس جامح بلا لجام، قد يظن أنه يسابق الريح نحو الحرية، لكنه في الحقيقة يتجه نحو التيه والضياع.

في صفحات التاريخ الإسلامي شواهد ناصعة على عظماء لم يكونوا مجرد مقلدين، بل كانوا مفكرين من الطراز الأول، ومع ذلك لم يكونوا متمردين على ثوابت الدين، الإمام أبو حنيفة، الذي اشتهر بمنهجه النقدي العميق، لم يكن ناقداً عبثياً، بل كان يزن الأمور بميزان الشرع والعقل معاً، فلم يجعله ذكاؤه يتطاول على الثوابت، بل زاده فهماً وعمقاً فيها، وسلمان الفارسي، الذي لم يقنع بالموروث دون تمحيص، بحث عن الحق بعقل واع وروح متعطشة للحقيقة، لكنه حين وجدها، لم يجادل فيها، ولم يضع نفسه في موضع الناقض لها، بل أصبح أحد دعاتها وحملة لوائها.

إن الطفل الذي يُدرّب على التفكير الناقد، دون أن يُوجّه ليكون ناقماً على كل شيء، سيكبر وهو يزن الأمور بميزان دقيق، فلا يكون إمعة يسير خلف التيار دون فهم، ولا يكون معارضاً لكل شيء لمجرد العناد والاختلاف، فالحكمة ليست في كثرة الأسئلة، بل في نوعيتها، وليست في الجرأة على الاعتراض، بل في القدرة على التحليل الواعي.

حين نزرع في عقول أبنائنا أن القيم ليست قيوداً تكبّل التفكير، بل ركائز تصونه وتحفظه من الضياع، حين نعلمهم أن النقد لا يعني الهدم، وأن الوعي لا يعني الرفض الدائم، وحين نُشعرهم أن القانون والدين ليسا عقبة في طريق حرية الفكر، بل هما منارة ترشده إلى الصواب، حينها فقط نكون قد نجحنا في تربية جيل مفكر، واع، ناضج، قادر على أن يبني، لا أن يهدم، وأن يرتقي بعقله دون أن يسقط في شهوة الجدل العقيم.


كلمات دلاليه

تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة