رمضان والمراقبة الذاتية

يمتلئ قلب الإنسان رعبًا إذا علم أن هناك من يراقبه،
ويعُدُّ عليه أنفاسه، وعندها يفتقد الأمان النفسي، بينما المراقبة الذاتية أمر آخر.
والغفلة بعدم العلم بتلك المراقبة تُشعره بالأمان
الزائف، رغم إحداق المخاطر به، وقُرب وقوعه في يد من يراقبه، فيحاسبه على أعماله،
ويؤاخذه بما لم يرض منها، فالمراقبة تورث صاحبها الحذر من الوقوع في الأخطاء
والهفوات.
وهو قد يجانب الوقوع في الأخطاء والزلات لا عن إيمان
جازم بضررها وسوئها، لكن يفعل ذلك خوفًا من الرقيب وحسابه ومؤاخذته.
لكن الاستقامة الحقيقية والصلاح يكونان حينما يتجنب
الإنسان الأخطاء والزلات والأغلاط عن يقين جازم داخله، سواء أكان هناك رقيب أم لا،
وإن وقع منه الغلط والزلل فإنه يراجع نفسه ويحاسبها سريعًا، ولا يتمادى فيما وقع
فيه، وهذه هي المراقبة الذاتية الداخلية.
والمراقبة هي: "علم العبد باطلاع الرب، سبحانه،
عليه، فاستدامته لهذا العلم مراقبة لربه، وهذا أصل كل خير له"(1). فالمراقبة
يقظة وحذر، وبدونها يقع الإنسان في الغفلة، وسقطة واحدة قد تكلِّف الإنسان كثيرًا.
فما خروج أبينا آدم من الجنة إلا عن غفلة واحدة؛ حيث
ترك المراقبة، واستمع للوسوسة، فكان ما كان. قال ابن الجوزي: "نزل آدم عن
مقام المراقبة درجة فنزل، فكان يبكي بقية عمره"(2).
اقرأ أيضا: تربية الدعاة على مراقبة الله
و"الرقيب" من أسماء الله الحسنى، وإذا علم
العبد أن ربه وسيده لا يخفى عليه شيء من أمره صان سره وجوارحه عما يدنسهما.
و"مَن تعبَّد الله باسمه الرقيب أورثه ذلك المقام المستولي على جميع
المقامات، وهو مقام المراقبة لله في حركاته وسكناته؛ لأن من علم أنه رقيب على حركات
قلبه، وحركات جوارحه وألفاظه السرية والجهرية، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع
على عمله كل وقت وكل لحظة، وكل نفَس وكل طرْفة عين، واستدام هذا العلم، فإنه لابد
أن يُثمر له هذا المقام الجليل"(3).
والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة يكون لمن راقب
الله تعالى، في كل أحواله، فبالمراقبة تكوِّن الخوف من الله، والحياء من الله،
والحب لله. "فأما الخائف فمراقب بشدة حذر من الله تعالى، وغلبة فزع، وأما
المستحيي من الله فمراقب بشدة انكسار وغلبة إخبات، وأما المحب فمراقب بشدة سرور
وغبطة نشاط وسخاء نفس، مع إشفاق لا يفارقه"(4).
مراقبة الله
والخوف الناتج عن مراقبة الله هو من تعظيم الله،
وإقداره حق قدره، وهو خوف يجعل الإنسان يفر إلى ربه لائذًا بحماه، طالبًا رضاه،
مجتنبًا سخطه، وليس خوف فرار منه.
قال ابن المبارك، رحمه الله: "الذي يهيج الخوف
حتى يسكن في القلب دوامُ المراقبة في السرِّ والعلانية"(5).
فمن راقب الله تعالى، أتى ما يحبه الله، وابتعد عما
يبغضه الله، يقدِّم ما قدَّمه الله، ويؤخِّر ما أخَّره الله؛ قال ذو النون المصري:
"ثلاثة من أعمال المراقبة: إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظَّم الله، وتصغير
ما صغَّر الله"(6).
ومن راقب الله راقب جوارحه عن الوقوع في المحرمات،
وراقب خواطره عن الوقوع في الوساوس.
وتيقظت أعضاؤه وملكاته؛ فالعقل يراقب القلب فيضبط
عواطفه وشهواته ونزعاته، والقلب يراقب العقل فيضبط شطحاته ونزغاته.
اقرأ أيضا: مدرسة رمضان (2)
لكن من راقب الناس اختلطت به الأمور والأحوال؛ فأهواء
الناس متباينة ومتقلبة، فما يحبونه اليوم يكرهونه غدًا، وما يحمدونه يومًا يذمونه
آخر، لذلك قال بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وقال سلم الخاسر:
من راقب الناس مات غمًّا
ومن كان همه مراقبة الناس غفل عن مراقبة رب الناس،
وقد قيل: "أصل ترادف الذنوب من إغفال المراقبة"(7).
والمراقبة من أعمال القلوب، والقلوب تحتاج لغذاءٍ
لتتقوى، وغذاء القلوب مختلف عن غذاء الأبدان؛ فالأبدان تحيا بالمآكل والمشارب،
والقلوب تحيا بصنوف العبادات؛ قال ابن عجيبة: "الصوم والصلاة قوت القلب،
والروح محل المشاهدة، والقلب محل المراقبة"(8).
عبادة سرية
والصيام عبادة سرية، والمراقبة عبادة قلبية، وكلاهما
يُصلحان الباطن ويُطهِّرانه، فإن لم يقوِّ الصيام المراقبة الذاتية عند المسلم فما
الجدوى من ترك المآكل والمشارب والمناكح؟
عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله، فلانة تصوم
النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها.
قال: "هي من أهل النار"(9). فهي صامت عن
المباح وأجاعت بدنها، لكنها لم تراقب الله في خلقه، ولم يعصمها صيامها عن الوقوع
في أعراض الخلْق وإيذائهم.
إنها لو كانت راقبت الله حقًّا، وأحبته صدقًا، وخافت
منه يقينًا، واستحت منه قطعًا، لما آذت جيرانها، ولو علمت أن حقيقة الصيام ليس
الامتناع عن المباحات فحسب، بل حبس النفس عن شهواتها الظاهرة والباطنة لما وقعت
فيما وقعت فيه، لقد امتنعت عن الطعام المباح واستساغت لحوم الجيران المحرمة.
فإن اقترنت الغفلة بالصيام لم يُثمر ثمرته المرجوَّة،
واقتُرِفت الآثام وارتُكِبت المعاصي، فيُصبح الصوم وعدمه سواء؛ لذا قال ﷺ:
"مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ
لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"(10).
فرمضان ومدرسة الصوم فيه فرصة عظيمة لتقوية المراقبة في
القلوب، فلا ترى أحدًا إلا الله، ولا تخاف أحدًا إلا الله، ولا تتوجَّه بعملك إلا
لله، ولا تنتظر ثوابًا إلا من الله.
"والمراقبة
من مبادئ مرتبة الإحسان"(11)، والتي هي أعلى المراتب وأجلها، فيكون الصيام
طريقًا إلى الإحسان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
****************************************
الهوامش:
(1) الرسالة
القشيرية، (1/329).
(2) المدهش،
ص(360).
(3) الأسماء
الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي، ص(128-129).
(4) حلية
الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، (10/94).
(5) الرسالة
القشيرية، (1/255).
(6) شعب
الإيمان للبيهقي، (2/247).
(7) قوت
القلوب لأبي طالب المكي، (1/157).
(8) إيقاظ
الهمم في شرح الحكم، ص(390).
(9) أخرجه
البيهقي في "شعب الإيمان"،
(7/79).
(10) أخرجه
البخاري في "الأدب"، باب: "قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾"، ح(6057).
(11) بريقة
محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية، (4/330).