نحو رؤية مستقبلية للحركة الإسلامية

بعدما آلت إليه الحركة الإسلامية من تراجع في بعض بلدان المنطقة، كان لا بد من وقفة وإجراء بعض المراجعات التي لا تتصل بأصل الفكرة التي أسس لها الإمام حسن البنا رحمه الله، وإنما تتعلق أكثر بالتفسيرات والتشعبات التي نتجت عن الفكرة الأصيلة التي أنبتت شجرة عميقة الجذور، كثيرة الفروع والثمار، مراجعة التفسيرات التي دارت حول ركن الفهم وهو الأصل الأول من الأصول العشرين التي بنى عليها البنا دعوته، و«رسالة التعاليم» التي لم يختلف عليها فقهاء وعلماء الأمة من أن من وضعها إنسان عبقري فقيه عالم.
فالمراجعات التي يجب أن تتم، إذن، تدور حول الأتباع الذين طبقوها تبعاً لفهم كل منهم (بافتراض حُسن النوايا مع سوء الفهم)، فتشرذمت الفكرة التي جمعت الملايين حولها، وتمزقت الأخوّة التي كانت أساساً للفكرة، وتم إرجاع الإخفاق الكبير في الحقبة الأخيرة لأسباب فرعية، مثل الفصل بين الدعوي والسياسي، وما كان يجب أن يستتبع ذلك من إنشاء أحزاب تمارس العمل السياسي بعيداً عن رقابة وتحكمات السلطة الدعوية بالحركة، واعتبار أن المخالفة في الرأي تدخل في دائرة الحرام بمخالفة رأي الإمام وشق صف الجماعة، ولقد انقسمت الآراء بين مؤيدين بقوة ومعارضين بعنف حول فكرة الفصل من الأساس.
فكرة الشمول
التبست فكرة شمول الإسلام التي عرض لها البنا عند البعض بمفهوم الفصل أو عدمه، والغريب أن الطرفين أو الأطراف المختلفة لا ينكرون شمولية الإسلام، وأن الأرض تساس بالدين، وأن الأمر كله لله، وأن تعطيل الإسلام عن الحكم هو نوع من الخروج من الملة باعتبار تكذيب صريح القرآن من الأدلة التي ساقها الفقهاء في شرح الأصل الأول للشيخ البنا وهو: «الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء»، واعتبار أن أي خروج أو تفسير جديد لهذا الأصل، هو خروج على الدين نفسه وليس مجرد اجتهاد لصالح الفكرة، ولصالح المسلمين.
بينما يرى الفريق الآخر أن مفهوم فكرة الفصل تعتمد على وجود المتخصصين داخل الإطار المرجعي للإسلام كفكرة محركة وموطن ارتكاز وانطلاق، بمعنى أن السياسة مهنة مماثلة للعديد من المهن الأخرى كالطب والهندسة والزراعة، على سبيل المثال، تتطلب دراسة وتخصصاً وفهماً ومهارات، وإلا تحول الأمر لفوضى وتخبط في الأداء وكارثية في النتائج.
وبين رفض فكرة الفصل على الإطلاق، وفكرة التخصص وتقديم الخبرة على مبدأ الثقة، حدثت أكبر عملية انقسام في تاريخ الحركة الإسلامية بالمنطقة العربية والإسلامية، وما زال الصراع قائماً بين الاتهامات بالتهاون والخروج على مقتضى الفكرة، والغلو في تفسيرها، ولنا الآن بعد تلك الإخفاقات المزلزلة أن نسأل: هل كان يجدي فصل السياسي في أحد الأقطار من وقوع تلك الانقسامات؟ ولماذا أخفق في دول أخرى بالرغم من الانفتاح الكبير مع العلمانية والليبرالية؟ وما الرؤية المستقبلية للحركة الإسلامية في ظل المستجدات الإقليمية والدولية؟
تحديات داخلية وخارجية
تواجه الحركة الإسلامية مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية كي تستطيع أن تستعيد توازنها من جديد:
1- تحديات داخلية، ومن أهمها حرية التفكير والإبداع داخل الصف الإسلامي، والتفرقة بين الثوابت الإسلامية التي تتعلق بأمور الشريعة، والحرية الفكرية والعملية والإبداع في ابتكار وسائل لنشر الفكرة والتحرك بها في المجتمعات، لأنه على ما يبدو رغم النضج الذي وصلت إليه في عهد المؤسس، فما زالت الأمور مختلطة عند الأتباع.
2- تحديات تتعلق بترميم الصف والقضاء على الخلافات، ففي الوقت الذي يتجه فيه العالم لصناعة التجمعات، يجب على الحركة ألا تتشرذم وتتفرق.
3- تحديات خارجية تتعلق بالتعامل مع الأنظمة، فليس من المعقول أن يكون الصدام هو الصورة الظاهرة الوحيدة في التعامل معها.
4- تحديات تتعلق بالقبول العالمي للفكرة، وهو ليس مستحيلاً، فالعالم اليوم يتشكل من جديد، وتعقد التحالفات تبعاً للمصالح أكثر منها تبعاً للأيديولوجيات.
5- استيعاب القيادات الشابة المبدعة والمؤسسية، فالزعامة الفردية لم تعد مجدية، وشخصية البنا من الصعب أن تتكرر.
رؤية مستقبلية
وفي ظل التحديات المعاصرة بعد تاريخ من التجارب المريرة، وبعد مرور ما يقرب من مائة عام على انطلاقة الحركة الإسلامية في المنطقة، هل ما زال هناك أمل في أن تستعيد قوتها وريادتها ودورها المنوط بها كطليعة للأمة في استعادة هويتها؟
الحقيقة أننا نؤمن إيماناً راسخاً بأن عملية التجديد الدائم هي لازمة تاريخية لبقاء الدين والأمة، وأن الأمر يتعلق بإرادة الله عز وجل، وأنه سبحانه لا يحابي أحداً لتاريخه النضالي أو لمجرد مظلوميته دون أن يدفع بالأسباب اللازمة لأي تغيير أو تطوير أو تجديد، فإرادة الله لا تحابي القاعدين أو المقصرين، ونصره سبحانه لا يأتي بأنصاف المواقف.
ولنا في «حماس» والمقاومة مثل ودرس، حيث إنها استطاعت وبمهارة أن تنفك عن القيادة الرتيبة لها خارج البلاد، وتستقل بقرارها الداخلي بعيداً عن فكرة الحزبية والخلافات والصراعات، واستطاعت بمهارة كذلك أن تجعل قضيتها هي قضية كل المسلمين.
مسألة عودة الحركة الإسلامية بنفس حيثياتها وعقولها وأفكارها وثباتها المزعوم مسألة صعبة للغاية، أو تكاد أن تكون مستحيلة، إنما يتعلق الأمر بمجددين آخرين يخرجون من نفس العباءة بفكر أكثر تفهماً وإدراكاً، فهذا هو الممكن، شرط أن تكون مرجعيته مرحلة فجر الإسلام، بعد أن اختطف فكر البنا وتم تفريغه من مضمونه ومقاصده.
لقد تم التلاعب بثوابت الدين لصالح أعداء الإسلام، وعلى من يريد التجديد أن يراجع، وأن يستعين بمتخصصين في كل مجال، وأن ينفتح على الآخر للتعامل معه وليس للذوبان فيه، وأن تكون هناك رؤية للتحديات التي تلاقيها وسوف تلاقيها مستقبلاً، وأن تضع في حسبانها أن النجاح هو مآل الفكرة والعمل الصحيح وليس السجون والمطاردات، وإن حدثت فهي فترة زمنية للتمحيص واختيار الكوادر القادرة على الاستمرار في ظروف شديدة القسوة.
أما أن يستمر التمحيص والثبات لمائة عام كاملة، فهذا ليس تمحيصاً، بل نتائج مرعبة لطريق منحرف عن فكرة الإسلام القوي العزيز، على أي حركة وليدة جديدة أن تتعلم كيف تقبل النقد، وتتفادى الضغوط الدولية، وتصنع لها ظهيراً شعبياً قوياً، ثم ظهيراً دولياً من عقلاء العالم، وقد أثبتت «طوفان الأقصى» أنهم موجودون.