عوامل تنزُّل النصر على المؤمنين يوم «بدر»

وقعت غزوة «بدر
الكبرى» -على الأرجح- في يوم الإثنين السابع عشر من رمضان في العام الثاني من
الهجرة، وهي من أجلِّ أحداث الإسلام، وإحدى المعارك الفاصلة التي وقعت في الشهر
الفضيل، حتى وصفها الله تعالى بـ«يوم الفرقان»؛ (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ..) [الأنفال: 41]؛
تعظيمًا لها.
وإن ذُكرت
«بدرُ» ذُكر «رمضانُ»، شهر الانتصارات والبشريات، والتقوى وعلوِّ الهمّة، والجهاد
والرباط، وقد تجلّت خلالها معاني الصبر والإيمان، وحسن التوكل على الله، فلم يكن
النصر صدفةً، بل كان لأسباب إيمانية مهّدت الطريق لهذا الفتح العظيم.
قال العلماءُ: «يومان
في الإسلام لو لم ينصر الله فيهما المسلمين لضاع الدين؛ يوم بدر ويوم الردة»، أما
يوم بدر فقد كان إعجازًا بكل المقاييس؛ كان تتويجًا لثلاثة عشر عامًا من التربية
والوحي بمكة، وتأكيدًا لصلاح تلك العقيدة الجديدة لصنع الأمة الخاتمة، التي هي خير
أمة أُخرجت للناس.
دور الأنصار في غزوة «بدر»
وقد جعل الله
بدرًا وما وقع فيها أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، ولمن أراد إعزاز دينه؛
إذ مُلئت الغزوة بعوامل النصر وأسباب الغلبة على المشركين، وأُفردت لها سورة كاملة
في القرآن هي سورة (الأنفال)، لخّصت تلك العوامل في جمل سريعة رائعة؛ ما جعلها
تُتلى عند كل نزال ليحتاط المسلمون؛ وليتذكروا أن ذلك دستور النصر على الأعداء؛ من
أخذ به نجا، ومن تركه هلك:
• فلن تنتصر
الأمة إلا بشباب مخلصين رُبُّوا على العقيدة وأحبُّوا الدين، واستعدوا لبذل النفس
والمال في سبيل إعلاء كلمة الله؛ أمثال الشاب «سعد بن معاذ»، ابن العشرينيات، الذي
نطق بكلمات قليلات شافيات خلّدها التاريخ؛ ردًّا على سؤال النبي ﷺ حول رأي الأنصار
فيما هو مقدم عليه، قال –رضي الله عنه-: (قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به
الحق، وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردتَ فنحن
معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل
واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبرٌ عند الحرب، صدقٌ عند اللقاء،
لعل الله يريك فينا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله).
ولنراجع أيضًا
موقف «عمير بن الحمام الأنصاري»، الذي يؤكد أهمية التربية على الجهاد، وقد استطال
مدة أكل تمرات عن اللحاق بركب الشهداء، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى
قُتل –رحمه الله.
• ولن ينتصر
القاعدون أو المقصِّرون أو الحمقى؛ فلن تكون هناك غلبةٌ إلا بعد الأخذ بالأسباب
المادية التي يأخذ بها العدو؛ فالمسلمون على قلَّتهم في الغزوة إلا أن النبي ﷺ جعل
من هذه القلة جيشًا، قسّمه كتيبتين جعل -لحكمة ارتآها- على إحداهما مهاجري (عليّ)
وعلى الأخرى أنصاري (المقداد)، وتحرّى كتمان خبر الخروج، وجمع معلومات كافية عن
العدو قبل لقائه، وشاور أصحابه -وهو نبي يُوحى إليه- في أربعة مواضع معلومة لمن
قرأ تفاصيل الغزوة.
• وإذا كان
الاعتماد على الأسباب واجب؛ فإن الاعتماد على ربها أوجب، وقد ابتهل النبي ﷺ قبيل
الالتحام مستغيثًا بربه حتى أشفق عليه أبو بكر قائلًا: (كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه
سينجز لك ما وعدك)؛ فأنزل الله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ
لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:
9]، ومنطوق الآية يؤكد أن الاستغاثة كانت جماعية.
• وفي السلم أو
الحرب لا بد أن يكون للمسلم ولاء وبراء حسبما تقول عقيدته ويأمر دينه، وتلك لا
تردد فيها ولا مشورة؛ فقد قتل عمر خاله العاص بن هشام بن المغيرة، وهمّ أبو بكر
بقتل ابنه عبد الرحمن، وقتل حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث أبناء عمهم: شيبة وعتبة
والوليد بن عتبة؛ فما لانت لهم عاطفة، ولا انخدعوا بما ينخدع به من لم تتمكن
العقيدة من قلبه.
• والمدد الإلهي
لا ينزل على صف متنازع مهلهل لا يقدِّر أفراده قادته ولا تستوعب القيادة الأفراد،
كما لا يزور النصر صفًّا انشغل بالدنيا عن الآخرة، وبشهوات النفس عن نصرة الدين،
وقد جاء مطلع (الأنفال) مؤكدًا ذلك؛ فلا نصر إلا بصلاح ذات البيْن، ولا فوز إلا
بالانشغال بهمِّ الإسلام والمسلمين. راجعوا موقف سواد بن غزية مع النبي ﷺ لما أصرّ
على القوْد منه، وراجعوا اقتراح سعد بن معاذ ببناء عريش للنبي ﷺ، وحيثيات بناء هذا
العريش.
• ويثبت يوم بدر
أن النصر لا يشترط كثرة العدد ولا عدته، إنما يشترط صبرًا وتقوى، وإخلاصًا
وتواضعًا ومذلة لله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ
يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29]، (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ
قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ
فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 26]، (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:
17].
• والمسلم لا
يخاف إلا الله؛ إذ لا خوف على من كان الله وليه ونصيره؛ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال :
30]، (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 62]، كما أنه مطمئن لمن حوله
من المؤمنين المخلصين، وتلك ميزة لا تجدها إلا عند أتباع هذا الدين (يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:
64].
• وفي كل زمن
وأينما كان للمسلمين وجود؛ كانت أعين أحفاد القردة شاخصة إليهم، تهمُّ بقتلهم
وإفساد أفراحهم. لقد بدأ كيدهم الإجرامي للمسلمين بعد انتصار بدر في «بني قينقاع»،
ولا يزالون إلى اليوم يكيدون. أشعل الله قلوبهم وبيوتهم نارًا.