عامان على الإبادة.. ألم وأمل لا ينتهيان في غزة

في غزة، لا تُلتقط الصور عبثًا؛ فكل
مشهدٍ فيها يروي وجعًا صامتًا، وكل ملامح وجهٍ تخبئ خلفها روايةً من الصبر والفقد
والأمل والألم وقهر الفقد وتحدي المستحيلات.
وثّقت مجلة «المجتمع» الكويتية مشاهد
حيّة من المدينة بعد أكثر من عامين على حرب الإبادة، لتكشف أن الرماد لم يطفئ
النبض، وأن الحياة ما زالت تنبت رغم الركام.
شهيدة المساعدات
في أحد أيام الإبادة، أعلن المحتل يومًا
خاصًا لتوزيع ما سمّاه مساعدات إنسانية، وسمّاه أهل غزة منذ اللحظة الأولى «يوم
المصائد»؛ فإما أن تعود المرأة بكيس طحين، أو تُعاد في كيس.
خرجت خديجة أبو عنزة مع الفجر، تمسك
أملًا واهنًا في يد، وتجرُّ وجعها في الأخرى، حيث ودّعت أبناءها على وعد بالعودة،
وهي التي فقدت إخوتها الثلاثة في رحلة بحث عن قوت مشابهة، كانت تعرف أن الموت أقرب
من الرغيف، لكنها خرجت، لأجل حليب يسكّن جوع رضيعها، ورغيف يطفئ أنين أطفالها.
وحين وصلت إلى منطقة زيكيم، لم تمهلها
رصاصة الغدر سوى لحظة تنفّس، اخترقت صدرها وسقطت كما تسقط السنابل في موسم الحصار،
فلم تعد بكيس المساعدات، بل بجسد بارد بين أكفّ المكلومين، عادت خديجة شهيدة
الطحين، وأُمًّا غابت وبقيت وصيتها على وجوه أطفالها: أن يعيشوا رغم الفقد، وأن
يتذكّروا أن الجوع في غزة يُروى بالدم.
أحلام تقتل بصاروخ
لم يستثنِ الموتُ أحدًا في غزة؛ قتل
الأطفال في البيوت والخيام ومراكز النزوح، والرضّع في أحضان أمهاتهم، والأجنة في
بطونهن، وحتى الأجنة المجمدة في أنابيب الأمل، ففي ضربة وُصفت بأنها «مجزرة الحياة»،
قصف الاحتلال مركز البسمة للإخصاب والإنجاب، فتبخّر حلم أكثر من 5 آلاف جنينٍ
مجمّد، وخمدت معه أنفاس آلاف الأمهات والآباء الذين انتظروا كلمتي «ماما» و«بابا»
سنين طويلة.
كانت فاطمة جراد واحدة من أولئك الحالمين
بالأمومة، قصدت المركز لتزرع في رحمها بريق حياة، لكن الاحتلال سرق منها الحلم
مرتين؛ أولًا حين قتل أجنتها في قصف المركز، ثم حين قصف البيت الذي لجأت إليه،
فارتقت شهيدة قبل أن تحضن طفلًا طال انتظاره، رحلت فاطمة دون أن تُنادى أُمًّا،
لكن أمها قالت وهي تودعها: رحلت لتكون أمًّا لطفل في الجنة.
تحدٍّ رغم المستحيل
في غزة، حيث تتناثر الأحلام كما الركام،
لم يكن ضياء العديني طفلًا عاديًا؛ كان يحمل كاميرته كأنها نافذته إلى الحياة،
عاشقًا للبحر والغروب، يلاحق خيوط الضوء في آخر النهار، يوثّق وجوه الناس البسيطة،
وضحكات الأطفال التي تتحدى الحصار، حلمه أن يُري العالم وجه غزة الآخر؛ الجمال رغم
الألم، والضياء وسط العتمة.
لكن الحرب لا تفرّق بين الحلم والجسد؛
صاروخ غادر سقط على المقهى الذي كان يجلس فيه، فبُترت يداه وتبعثر عمره في لحظة، ساد
الصمت حوله، إلا من صوت داخلي يقول: «لا تترك الكاميرا».
منذ ذلك اليوم، لم يدفن ضياء حلمه كما
دُفنت أطرافه، بل حمل وجعه وصنع منه طريقًا جديدًا، يتدرّب اليوم على إمساك
الكاميرا بلا يدين، يلتقط بها بصره لا بيده، ويرى في كل لقطة وعدًا بالعودة إلى
الحياة، هكذا يواجه ضياء المستحيل، ويعلّم العالم أن في غزة من لا تُطفئه النيران،
لأن في قلبه ضوءًا أقوى من كل قصف.
حلم لا يموت
قبل 17 عامًا، جلست الشاعرة الفلسطينية
أمل أبو عاصي تكتب الحلم كما لو كانت تكتب قصيدة من قلبها، لم يكن مشروعًا عابرًا،
بل أمنية عُمُرٍ أرادت أن تنبت على أرض غزة رغم الحصار والرماد، حلمت بروضة تُشبه
الفجر في صفائه، على طراز ياباني يقوم على النظام والاحترام والابتكار، حيث يتعلّم
الصغار أن يبدعوا كما يتنفّسون.
آمنت أمل أن الطفولة في غزة تستحق فضاءً
مختلفًا؛ بيئة تحضن الخيال وتحفّز العقول، لا تُخيفها أصوات الحرب ولا تقيّدها
الأسلاك، فكانت «روضة غرس الحديثة» مشروعها الذي أرادت به أن تصنع جيلًا ينهض
بفكره، ويتشبّث بوطنه، ويصنع من الألم بداية جديدة.
تحوّل الحلم إلى واقع جميل، فقد كانت «غرس»
أشبه بواحة صغيرة وسط مدينة مثقلة بالحصار، ضحكات الأطفال كانت أقوى من أصوات
الإنذار، وأناشيدهم تُغنّي للحياة كل صباح، لكن الاحتلال، كعادته، لا يحتمل ضوءًا
ولا فرحًا؛ فبعد شهر واحد من بدء العام الدراسي في سبتمبر 2023م، قصفت طائراته
الروضة، فاختنق الحلم بين الركام.
تحطّمت النوافذ والمقاعد، واحترقت دفاتر
الأحلام الصغيرة، وفي لحظة واحدة، تبدّدت أماني 130 طفلًا، وتحوّلت الروضة التي
احتضنتهم إلى أطلالٍ صامتة، غير أن أمل لم تُسلّم للحزن رايتها، ولم تسمح للحلم أن
يُدفن تحت الغبار.
حملت فكرتها إلى الجنوب، إلى خيام النازحين، هناك، على الرمال الساخنة، نصبت خيمة أخرى سُمّيت «غرس»، وجمعت فيها
أطفالًا شُرّدوا من بيوتهم ومدارسهم، جعلت من الخيام صفوفًا ومن الطين لوحات
للكتابة، ومن كل يدٍ صغيرة زهرة أمل جديدة، زرعوا النعناع حولهم، وغرسوا معه فكرة
أن التعليم لا يحتاج إلى جدار بقدر ما يحتاج إلى قلب لا يعرف الهزيمة، وحين سُمِح
بالعودة إلى الشمال.
كانت أمل أول من عاد، مشت بخطاها على
طريق يعرفها جيدًا، نحو المكان الذي صار رمادًا، لكنها كانت ترى في الرماد بذرة
حياة، وحين وصلت، وجدت الروضة كأنها تحتضر، طوابقها مهدّمة وجدرانها متشققة، ومع
ذلك ابتسمت.
تقول: وفي حفل التخرّج الأول بعد الحرب،
أقيم الاحتفال فوق أنقاض الروضة، حمل الفوج اسم «أحلام فوق الركام»، وارتفعت فيه
قبعات الأطفال الصغيرة كأعلام بيضاء تنتصر للحياة، تقول أمل: العالم يرى المكان
مهدّمًا، وأنا أراه انتصارًا.
طفولة محروقة
تركت مريم دميتها على الأرض بصمت، تلك
التي كانت لا تفارق يديها، بعدما سمعت الطبيب يخاطب أسرتها بلهجة ثقيلة: «اثنا عشر
يومًا فقط، يجب أن تسافر مريم»، عندها شعرت أن الزمن انقلب ضدها، يركض قبلها وهي
تلاحقه بخوفٍ لا يُحتمل، في أحد مختبرات مستشفى ناصر بخان يونس، تستلقي عظمة من
جمجمتها في ثلاجة باردة، تنتظر عملية عاجلة لا تتوفر في غزة، وإن تأخرت ستتوقف
حياتها، منذ أن أصابها صاروخ الاحتلال وبدّد ملامحها، صارت تعاني من صداعٍ دائم
ونوبات صرع ودوار لا يفارقها، فيما تكبر طفلة الثانية عشرة داخل وجع لا يُطاق.
تقول مريم بصوت خافت: «كنت حلوة كتير،
وشعري طويل، بس الدكتور حلق لي شعري، صرت بشعة، بخاف أنام وما أصحى، وماما بتعيط
كل يوم، وأنا بس بدي أعيش وأرجع ألعب»، تنكمش الطفلة في خوفها، وتتشبث ببقايا
الأمل، تناشد العالم أن يُنقذها قبل أن تنتهي مهلة الأيام، علّها تعود طفلة تحمل
لعبتها لا جمجمتها المجمدة.
ويبقى وجع الحرب لا ينتهي فهو لا يتوقف
عند دمار البيوت أو رحيل الأحبة، بل يمتد في صمت داخل الأرواح، يسكن العيون، ويعيش
في تفاصيل الأيام.