غزوة «حمراء الأسد».. النصر المعنوي والدروس الخالدة

د. محمد السبأ

19 أكتوبر 2025

155

لا يقتصر النصر على كثرة القتل أو الحسْم السريع في المعركة، بل يتجلَّى في مظاهر أعمق وأهم؛ فالبقاء والصمود في وجه العدو، وعدم تمكُّنه من تحقيق أهدافه، يعبِّر عن انتصار حقيقي، كما أن عودة العدو مهزوماً أو مُثقلاً، دليل على ضعف خططه وفشله في تحقيق مآربه.

وأيضاً، فإن الحفاظ على المعنويات عالية بين أفراد الجيش واستمرار تماسكهم يعكس قوة الروح والإصرار على البقاء رغم التحديات والمؤامرات، ورغم الفارق الكبير في العدد والعُدَّة المادية بين الطرفين، والتاريخ يشهد بذلك، ودليل ما أشرنا إليه حال المسلمين وفعلهم في غزوة «حمراء الأسد» بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم.

غزوة «حمراء الأسد» وسببها

لمَّا عزم المشركون على الرجوع إلى مكة بعد معركة «أُحد»، أشرف على المسلمين أبو سفيان ثم ناداهم: موعدكم الموسم بـ«بدر»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قولوا: نعم قد فعلنا»، قال أبو سفيان: فذلك الموعد، ثم انصرف هو وأصحابُه، فلمَّا كان ببعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئًا، أصبتُم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتَهم.

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوِّهم، وقال: «لا يخرج معنا إلا من شهد القتال»، فقال له عبدالله بن أُبَي: أركب معك؟ قال: «لا»، فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القَرح الشديد والخوف، وقالوا: سمعًا وطاعةً، واستأذنه جابر بن عبدالله وقال: يا رسول الله، إني أحب ألا تشهد مشهدًا إلا كنت معك، وإنما خلَّفني أبي على بناته، فأْذَنْ لي أسيرَ معك؛ فأذِنَ له.

فسار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا «حمراء الأسد»، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيُخَذِّلَه.

فلحقه بالرَّوحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرَّقوا عليكم وخرجوا في جمعٍ لم يخرجوا في مثله، وقد ندم مَن كان تخلَّف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ قال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلُعَ أولُ الجيش من وراء هذه الأكمة، فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال: فلا تفعل فإني لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة.

ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة فقال: هل لك أن تُبْلِغَ محمدًا رسالةً وأُوقِرَ لك راحلتك زبيبًا إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم، قال: أبلِغْ محمدًا أنا قد أجمعنا الكرةَ لنستأصله ونستأصل أصحابه، فلما بلغهم قوله قالوا(1): (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173).

شعار المؤمنين ودعاؤهم «حسبنا الله ونعم الوكيل»

حينما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن المشركين يجمعون لهم ويريدون الكرَّة عليهم ثانيةً ما زادوا على أن قالوا: «حسبُنا الله ونعم الوكيل»، وقد ذكر الله ذلك عنهم في القرآن الكريم فقال: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173}‏ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران).

وهذا اللجوء الجميل للمؤمنين المتمثِّل في هذه الكلمة العظيمة؛ تدلُّ على التوفيق من الله الذي علَّمهم إيَّاها وتفضَّل عليهم بها، ليعلموا أن لهم ركناً شديداً لا يمكن أن يمسَّهم بمعيَّته سوء، وفي الحديث عن ابن عَبَّاسٍ: حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، قالَهَا إبْرَاهِيمُ عليه السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، وقالَهَا مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حِينَ قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(2)، وفي الحديث الآخر «إذا وَقَعْتُم في الأمرِ العظيمِ فقولوا: حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ»(3).

هذه الكلمة لا يعرف قدْرها إلا أهلها، ولا يستحق نتيجتها إلا هم، «لَمَّا فَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ، وَاعْتَمَدُوا بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ، أَعْطَاهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ أَرْبَعَةَ مَعَانٍ: النِّعْمَةُ، وَالْفَضْلُ، وَصَرْفُ السُّوءِ، وَاتِّبَاعُ الرِّضَا، فرضَّاهم عنه ورضي عنهم»(4).

دروس وعِبَر

كثيرة هي الدروس التي نتعلَّمها وندركها من هذه الغزوة السريعة التي كانت جزءاً مهماً من غزوة «أُحُد»؛ ومن ذلك:

1- استنهاض النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه للخروج فوراً لمطاردة المشركين، مع أنهم مُثقلون بالجراح، وفيه دليل على العزَّة رغم الألم، والاستعداد الدائم للمواجهة، والقدرة على المواصلة.

2- خروج المسلمين السريع وراء العدو؛ جعل المشركين يحثُّون السير نحو مكة لا يفكِّرون بالعودة للإجهاز على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، كما أبعدهم عن التفكير في غزو المدينة أو إيذاء أهلها.

3- أدرك المشركون أن المسلمين ما زالوا أقوياء، وأن أي محاولة للعودة إلى القتال سيكون في ذلك خسارة كبيرة لهم، وليست غزوة «بدر» ببعيدة عنهم.

4- في هذه الغزوة رسالة ودرس للمنافقين واليهود المتربصين بالمسلمين في المدينة، بأنهم إذا كانوا قادرين على متابعة التحرُّك العسكري في أي مكان، فإنهم لا شك أقدر على المواجهة داخل المدينة.

5- أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي لخروج فقط مَن حضرَ معركة «أُحد»، فخرجوا جميعاً دون أن يتخلَّف أحد منهم؛ ما يدل على الطاعة الكاملة لله ورسوله، وفيه إشعارٌ لهم بأن المعركة معركتهم، ورسالة للكافرين أن جيش الإسلام جاهز على الدوام رغم القرْح والألم، وأن العاقبة لهم متى ما استمروا على طريق الجهاد.

6- عدم إذْن النبي صلى الله عليه وسلم لرأس المنافقين عبدالله بن أُبي بالخروج، وإذْنه لجابر بن عبدالله؛ درسٌ للمؤمنين بأن المنافق لا يؤتَمن خصوصاً في مثل هذه المواقف، وأنه لا ثقة ولا صُحبة إلا للمؤمنين الصادقين.

7- في موقف معبد بن أبي معبد الخزاعي وتخذيله للمشركين درسٌ بأهمية الرسالة الإعلامية وحرب الإشاعات، وكيفية إدارة الحوارات والمقابلات وأعمال القلم واللسان، فكلها جزء من المعركة.

8- رغم ما أصاب المسلمين في «أُحد»؛ إلا أنهم عادوا إلى المدينة بعد غزوة «حمراء الأسد»، ومعنوياتهم عالية، وهم يشعرون بالنصر لا بالهزيمة، وبذلك أفسدوا على المشركين والمنافقين واليهود فرحتهم بما حصل في «أُحد».

9- في الغزوة تظهر حكمة النبي صلى الله عليه وسلم بغرس شعور النصر عند أصحابه وأنهم الأعلَون على أي حال، وأنه لا يحسُن بالمسلم إلا أن يكون بهيبته الكاملة المُستَمدَّة من عزَّة الله ودينه ورسوله والمؤمنين.




_____________

(1) زاد المعاد.

(2) صحيح البخاري (4563).

(3) الجامع الصغير (891).

(4) تفسير القرطبي.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة