كيف نسخّر الذكاء الاصطناعي لتعزيز حقوق الإنسان؟
في السنوات الخمس
الأخيرة، تحول الذكاء الاصطناعي ونماذجه المختلفة من مفهوم علمي نظري إلى قوة
مؤثرة تعيد تشكيل العالم في كل تفاصيله، ومن هنا أثيرت جملة من الأسئلة الأخلاقية
في التعامل مع نماذج الذكاء الاصطناعي وعلاقتها بمجال حقوق الإنسان، وخاصة مع تلك
القوالب السريعة والمتجددة التي تظهر الإجابات بشكل أكثر تفاعلية من غيرها من
وسائل التكنولوجيا الحديثة والمعاصرة.
تلك التساؤلات
الأخلاقية جعلت هناك مخاوف من فقدان السيطرة الإنسانية وتهميش دور القيم وعالم
الأفكار الهوية لتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، ومن هنا جاء السؤال: كيف يمكن أن
نسخر الذكاء الاصطناعي لتعزيز قيم حقوق الإنسان؟ وكيف يمكن تطوير هذه الأدوات
لتكون أدوات أكثر ذكاءً، بل وأكثر نبلاً من أجل ترسيخ العدالة والمساواة والكرامة
الإنسانية؟
تشير الإحصاءات
الحديثة، وفق تقرير حقوقي حول استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال حقوق الإنسان
بعنوان «ARTIFICIAL
INTELLIGENCE, HUMAN RIGHTS, AND SOCIAL JUSTICE: Building futures from Latin
America»، إلى أنه
تم مسح 136 بلدًا، نحو 39% من هذه الدول لديها سياسات وطنية أو إستراتيجيات للذكاء
الاصطناعي تخص حقوق الإنسان، كما أن هناك 43 دولة (من بين 136) لديها آليات «تقييم
الأثر على حقوق الإنسان» (Impact
Assessments) مذكورة ضمن
الأطر، كما أن هناك 24 دولة لديها سياسات تتناول المساواة بين الجنسين في سياق
الذكاء الاصطناعي.
فقط 33 دولة
لديها أطر تنظم «العمل وحق العمل» ضمن سياق الذكاء الاصطناعي، ومن بين هذه فقط 7
أطر لها قوة قانونية، تعكس هذه الإحصاءات التوزيع العالمي لسياسات وممارسات الذكاء
الاصطناعي المرتبطة بقيم حقوق الإنسان.
في سياق
الاستخدام التقني، وُجد في دولة مثل أيرلندا أن 8% من المؤسسات التي تضم 10 موظفين
أو أكثر تقول: إنها تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي بطريقة ما في عام 2023م، هذا
يعطي فكرة عن الانتشار المؤسسي لتقنيات الذكاء الاصطناعي، وإن لم يكن هذا الرقم
مخصصًا لحقوق الإنسان تحديدًا.
رصد وتوثيق جرائم حقوق الإنسان بالذكاء الاصطناعي
من أبرز أوجه
توظيف الذكاء الاصطناعي في مجال حقوق الإنسان الرصد والتوثيق، فالكثير من
الانتهاكات تقع في مناطق يصعب الوصول إليها أو يتم طمس معالم وجودها سريعًا، وهنا
تتدخل خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتصبح شاهدًا رقميًا لا يمكن إسكاتُه، ولا يسقط
بالتقادم.
على سبيل
المثال، تُستخدم تقنيات تحليل الصور والجغرافيا المكانية والأقمار الصناعية في
الكشف عن تدمير القرى أو وجود المقابر الجماعية في مناطق النزاع مع وجود بقايا
أثرية تخص الإنسان، كما طوّرت منظمات مثل «العفو الدولية» و«هيومن رايتس ووتش»
أنظمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي في تحليل الأدلة البصرية خلال ثوانٍ معدودة،
بينما كان ذلك يستغرق أسابيع طويلة من العمل البشري.
كما تساعد أدوات
تحليل النصوص والبيانات في تتبع خطاب الكراهية أو التحريض على العنف في وسائل
التواصل الاجتماعي؛ ما يمكّن الحكومات والمجتمعات المدنية من اتخاذ إجراءات
استباقية قبل تفاقم الأزمات، هذه القدرات التحليلية تجعل الذكاء الاصطناعي شريكًا
فاعلاً في حماية الحق في الحياة والأمن والكرامة.
تعزيز العدالة والوصول إلى القانون
والحقيقة أن بعض
نماذج الذكاء الاصطناعي لا تكتفي وحدها لمراقبة الانتهاكات، فالعمل البشري هو
الحاكم، لأن منظومة العدالة هي الضابطة حتى الآن في عملية ضبط الانتهاكات سواء
الجسدية أو المعنوية، لكن بعض الدول تستخدم خوارزميات متقدمة لعقد مقارنة تحليلية
للأحكام القضائية السابقة، وتقديم استشارات قانونية مبدئية للفئات التي لا تستطيع
تحمل تكاليف المحامين.
هذه النماذج
تمكّن الأفراد من فهم حقوقهم والوصول إلى المعلومات القانونية بسهولة، وهو ما
يُعتبر تطبيقًا عمليًا للمادة السابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص
على المساواة أمام القانون، لكن يجب أن نعي جيدًا أن استخدام الذكاء الاصطناعي في
القضاء ما زال يحمل تحديات أخلاقية عديدة، مثل خطر التحيز الخوارزمي أو الاعتماد
المفرط على قرارات هذه النماذج، لذلك، لا بد من تطوير أنظمة رقابية تضمن الشفافية
والمساءلة في كل مرحلة من مراحل تصميم هذه الخوارزميات واستخدام هذه النماذج.
المهمشون وتقنيات الذكاء الاصطناعي
يمكن أن يصبح
الذكاء الاصطناعي وسيلة قوية لتمكين الفئات المهمشة من تحقيق بعض الفرص وتوصيل
أصواتهم إلى منظومة العدالة المفقودة في بعض الدول، فعلى سبيل المثال، يمكن
لتقنيات الترجمة الفورية المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تقرّب بين الشعوب، وتتيح
للاجئين أو الأقليات اللغوية الوصول إلى الخدمات العامة دون عائق لغوي.
كما يمكن
للأنظمة الذكية التي تعتمد على تحليل البيانات السكانية وتحديد الفئات العمرية
والمناطق الجغرافية الأكثر تضررًا أن تساعد الحكومات والمنظمات المعنية في تحديد
الفئات الأكثر احتياجًا وتوجيه المساعدات الإنسانية بدقة أعلى؛ ما يعزز الحق في
الحياة الكريمة والتنمية، كما أن ثقافة حقوق الإنسان أصبحت تستخدم نماذج وتقنيات
الذكاء الاصطناعي وتعمل على فرص تعلم متساوية من أجل التكيف مع قدرات كل متعلم؛ ما
يعزز حق الإنسان في التعليم الجيد، خاصة في المناطق النائية أو التي تعاني من نقص
الكوادر التعليمية.
سلبيات العصر الرقمي.. انهيار الخصوصية
غير أن الوجه
الآخر لهذه التكنولوجيا يحمل أخطاراً تمس أحد أهم الحقوق الأساسية؛ وهو الحق في
الخصوصية، فمع تزايد استخدام أنظمة المراقبة وتحليل البيانات الشخصية، قد يتحول
الذكاء الاصطناعي إلى أداة للسيطرة بدلاً من التحرير، ومن هنا، تبرز أهمية الحوكمة
الأخلاقية للتكنولوجيا؛ أي وضع أطر قانونية وتنظيمية تضمن أن جمع البيانات
واستخدامها يتمان بشفافية واحترام للحقوق الفردية.
ويجب أن تكون
هناك آليات دولية لمحاسبة الشركات والمؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بطرق
تنتهك الحريات الشخصية أو تُكرّس التمييز.
نحو ذكاء إنساني مشترك
لكي نستطيع
تسخير الذكاء الاصطناعي ويصبح قوة إيجابية في مجال حقوق الإنسان، يجب أن يُصمَّم
ويُدار من منظور إنساني شامل، يتم الاعتماد عليه من منظومة الثلاثي الأخلاقي
(القيم والأخلاق والهوية)، وهذا يعني إشراك خبراء متخصصين من أجل تطويره بشكل
مستمر، بمن في ذلك النشطاء الحقوقيون، والأكاديميون، والمجتمعات المتأثرة مباشرة
بالتقنية.
إن الذكاء
الاصطناعي يجب ألا يُترك حكراً على الشركات الكبرى أو الحكومات، بل يجب أن يكون
موردًا عامًا يخدم الصالح الإنساني المشترك، ويمكن للمؤسسات الدولية مثل الأمم
المتحدة و«يونسكو» أن تؤدي دورًا محوريًا في وضع معايير أخلاقية وتوجيه استثمارات
البحث نحو المشاريع التي تعزز الكرامة الإنسانية.
في نهاية
المطاف، تظل نماذج الذكاء الاصطناعي مرآة تعكس نوايانا البشرية، فإذا استخدمناه
بروح إنسانية وأخلاقية واعية، يمكن أن يصبح أداة جبارة لتحقيق العدالة والمساواة
والحرية، أما إذا تُرك دون ضوابط أخلاقية، فقد يتحول إلى قوة تهدد هذه القيم
ذاتها.
إن السؤال ليس
ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيؤثر في حقوق الإنسان، فقد أصبح بالغ التأثير، ولكن
السؤال هو: كيف سنوجّه هذا التأثير؟ فالمستقبل الذي نطمح إليه ليس عالماً تحكمه
الخوارزميات، وإنما عالم توجّهه القيم الإنسانية وتدعمه التقنيات الذكية.
إن تسخير الذكاء
الاصطناعي لتعزيز حقوق الإنسان مسؤولية جماعية تتطلب توازنًا دقيقًا بين الابتكار
والحكمة والوعي القيمي والأخلاقي، فبين السرعة التقنية والعمق الأخلاقي تكمن حل
هذه المعضلة، ففي نهاية الأمر، لا يُقاس تقدم الحضارات بما تملكه من آلات، بل بما
تحققه من كرامة وعدالة لكل إنسان وما تملكه من أفكار ضابطة لهذه الوسائل الحديثة.
اقرأ
أيضاً:
ثقافة حقوق
الإنسان.. كيف ننشئها؟
حقوق الإنسان
في العالم الإسلامي.. نظرة غربية