محاولات مشبوهة لتصفية قضية فلسطين
منذ نشأت قضية
الوجود الصهيوني اليهودي على أرض فلسطين العربية ونحن نعلق آمالنا على نتائج كل
معركة تقوم بيننا وبين هذا العدو الماكر الخبيث، فكل المناورات السياسية التي كان
يحركها الصهاينة في الساحة الفلسطينية كانت تتسم بالخداع والمواربة واستخدام الحيل
والأكاذيب التي تكتشفها الشعوب بعفوية وبساطة ويتوه فيها الحكام بسذاجة أو سوء
تقدير أو عن عمد وعلم وتواطؤ.
ودائمًا كان
المجاهدون من أمتنا يسترخصون أرواحهم في كل معركة تقوم معتقدين أن طريق القتـال
والتضحية بالمال والأنفس في سبيل استخلاص حقوقهم هي أقصر طريق وأسلم طريق، ذلك
لأنهم ليس لهم ثقة في النجاح السياسي لحكامهم، وقد تعلموا من التاريخ القريب أن
عهود الأعداء ومواثيقهم لا تحترم إلا حين تحقق مصلحة لهم.
وهكذا نجد أمتنا
تعيش أيام المعارك في غبطة وسعادة تترقب تحقيق آمال عراض وتتمنى أن تطول هذه
الأيام وتستمر وتستعد بكل فئاتها في كل مكان لكي تكون معركتها حاسمة ومشرفة، وكانت
تصاب بخيبة أمل حين تنتهي المعركة دون نصر مشرف أو بهزيمة نكراء، ولم يكن يرضيها
تفسير للهزيمة إلا اتهام القادة الذين خططوا للمعركة بالخيانة والانهزامية.
ارفعوا أيديكم عن حقوق شعب فلسطين فإنكم
عجزتم عن حمايتها ولم تكلفوا بإضاعتها
كان لا بد من
هذه المقدمة لنفهم السبب الذي جعل أمتنا لا تنظر بعين الارتياح إلى المناورات
السياسية المتشبثة ببريق الحل السلمي الذي يلوح به ساسة أميركا وروسيا وينفذه
كيسنجر اليهودي وزير خارجية أميركا بنفسه.
فبعد معركة رمضان ذات الأبعاد السياسية المحددة، وبعد أن خيل للعرب أنهم حققوا انتصارًا
حاسمًا على "إسرائيل" ولأول مرة في تاريخ صراعهم معها بدأ التفاوض بين
العرب واليهود برئاسة كیسنجر، وكل دولة عربية بمفردها، وكان أن تخلت
"إسرائيل" عن جزء من سيناء وجزء من الجولان كمقدمة لحلول تضمن السلام
الكامل في المنطقة وتعطي "إسرائيل" صك وجود أبدي وشرعي على أرض
الفلسطينيين العرب. كانت كل دولة من دول المواجهة - كما اصطلحوا على تسميتها -
قانعة بالذي حققته من عودة بعض أرضها إليها وتعد العدة لخوض معركة سياسية كبرى
لمؤتمر جنيف الذي ستحضره كل الأطراف المتنازعة بزعامة أميركا وروسيا.
وهنا لا بد من
الإشارة إلى أن العرب سيحضرون المؤتمر لا بصفتهم عرب كما يكونون وقت اشتعال
الحروب، بل بصفتهم دولا متفرقة، كل دولة لها أهدافها الخاصة، فمصر ستناور للحصول
على سيناء وسوريا للحصول على الجولان والأردن للحصول على الضفة الغربية ولبنان
ربما لتأمين حدودها، وأما الفلسطينيون فخطر ما يفكرون في الحصول عليه لذلك فوجودهم
في المؤتمر سينسفه من جذوره ولا بد من تفكير جدي في إبعادهم عن هذا المؤتمر.
والذين يريدون
الحصول على هذه الأرض لا بد لهم من أن يعطوا "إسرائيل" شيئًا ثمينًا
جدًا نظير هذه الأرض، فلا يعقل أبدًا أن تكون "إسرائيل" هي الوحيدة التي
تعود خاسرة من هذا المؤتمر و"إسرائيل" هنا تريد شيئين طالما أكدت حاجتها
إليهما، شيئًا كان مبلغ طموحها منذ وجودها في الأرض العربية وشيئًا آخر تريده
ثمناً لانتصارها في حرب عام 1967. الشيء
الأول هو الاعتراف بشرعية وجودها على الأرض العربية وتأمين حدودها تأمينًا كاملًا
يضمن لهـــــــا العيش بسلام تام في وسط جيران مسالمين لتضمن لنفسها غزوًا
اقتصاديًا وثقافيًا يحقق لها انتصارات جديدة بأسلوب عصري جديد.
والشيء الثاني
هو الحصول على تعديل جذري للحدود التي كانت تقف عليها قبل حرب عام 1967م، فالقدس
وما حولها أصبحت مدينة "إسرائيلية" موحدة وغدت عاصمة لدولتهم واعترف
بذلك كثير من زعماء العالم وحكام الدول فليس في نية "إسرائيل" أن تعيد
شيئًا منها إلى العرب وكذلك بعض مناطق وأماكن من الضفة الغربية للأردن ترى أنه لا
يمكن التنازل عنها بالإضافة إلى الاختلاف على مستقبل الضفة الغربية للأردن ترى أنه
لا يمكن التنازل عنها بالإضافة إلى الاختلاف على مستقبل الضفة كلها وكيفية
إدارتها، كما أن حدودها مع سورية لا يمكن أن تعود كما كانت بل لا بد من تعديل جديد
يجعل الحدود أكثر أمنا وواقعية في نظر اليهود، أما حدودها مع مصر فربما اكتفت بشرم
الشيخ لتأمين الملاحة في ميناء العقبة.
وهنا وجدت الدول
المواجهة لـ"إسرائيل" نفسها أمام معادلة صعبة إذ إن في الساحة العربية
منظمات فدائية اجتمعت قيادتها السياسية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وقد كان
لهذا الوجود الفدائي أكثر من سبب جعل بعض حكام العرب يضطرون لتأييده وتبنيه في
كثير من الأحيان، فاللعبة السياسية كثيرًا ما كانت تقتضي إثارة الشغب من خارج
"إسرائيل" وداخلها لإزعاجها وإرباكها وإرغامها على قبول بعض التنازلات
ولم يكن أفضل من الفدائيين لتحقيق مثل هذه الأغراض.
هذه المنظمات
الفدائية بدأ يظهر خطرها على الحلول السلمية بمجرد أن بدأ التفكير في إعداد العدة
للذهاب إلى مؤتمر جنيف، فمصر التي تقود حملة الإصرار على الحلول السلمية والسير في
برنامجها إلى نهايته لا تريد أحدًا في المنطقة يحاول إفشال هذه الحلول أو الوقوف
في سبيلها لعرقلتها والأردن ترى أن الضفة الغربية جزء من المملكة المتحدة وبدون
الفلسطينيين تصبح دولة غير متكاملة لا في ثرواتها الطبيعية ولا البشرية، ويصبح
وجودها نفسه معرض للخطر.
و"إسرائيل"
التي هي الطرف المقابل للدول العربية في مؤتمر جنيف تسعى إلى إلغاء الوجود
الفلسطيني من المؤتمر لأن هذا الوجود –في نظرها- سيكون حجر عثرة أمام أي مساومة
على حقوق الشعب الفلسطيني، أو أي اعتراف بالحدود "الإسرائيلية"
المطلوبة، أو أي اقتراح لمستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما الفدائيون
ممثلين في منظمة التحرير الفلسطينية فيرون أن أي جزء يحرر من الأرض الفلسطينية ليس
لأحد غيرهم حق التواجد فيه، إذ إن وجودهم ذاته لا يكون له مبررًا إذا كانت نية كل
دولة عربية مواجهة أن تضم إليها أي جزء من الأرض الفلسطينية يتم تحريرها من العدو
الصهيوني.
ومن هنا كان
الموقف الحاد الجديد لمنظمة التحرير والحركات الفدائية من البيان المصري
الأُرْدُنّيّ الذي أسفر عنه اجتماع الملك حسين بالرئيس أنور السادات فقد اتفق ملك
الأردن مع رئيس جمهورية مصر على أن منظمة التحرير لا تمثل إلا الفلسطينيين
الموجودين خارج الأردن، وبتعبير أوضح فمنظمة التحرير لا تمثل الفلسطينيين الذين
يحملون جوازات أردنية، وهم فلسطينيو الضفة الغربية والفلسطينيون المقيمون في الضفة
الشرقية وكل الفلسطينيين الذين يعملون في الخارج ويحملون جوازات أردنية.
وإذا أردنا قياس
أبعاد هذا البيان الثنائي وجدنا:
أولًا: أنه صادر
من دولتين يحمل أكبر عدد من الفلسطينيين جوازات سفر أو وثائق سفر باسمهما.
وثانيًا: أن
معظـم الفدائيين في القيادات وفي القواعد ممن يحملون جوازات سفر أردنية.
وثالثًا: أن
الضفة الغربية وقطاع غزة هما الجزءان الوحيدان المتبقيان من فلسطين كما كان الواقع
قبل حرب عام 1967م، وهذان الجزءان تحت إدارة مصر والأردن.
ورابعًا: ليس
لمنظمة التحرير منفذ لدخول أي جزء من فلسطين يتم تحريره عن غير طريق هاتين
الدولتين.
وخامسًا: مصر
تمثل الدولة العربية الكبرى التي ينتظر منها تبني الحركات ذات الأهداف التحررية
ووجودها مع هذه الحركات ضروري لاستمرارها.
لهذه الأسباب
كان هذا البيان من هاتين الدولتين مجهضًا للعمل الفدائي، ومطوقًا لكل سبيل يريد أن
يسلكه لتحقيق أهدافه.
ولقد شجع هذا
البيان العدو "الإسرائيلي" فبدا زعماء "إسرائيل" يطلقون
تصريحاتهم المتطرفة التي ترفض أي وجود مستقل للفلسطينيين في مؤتمر جنيف كما ترفض
أيضًا أي شكل من أشكال الحكم الفلسطيني المستقل للأرض الفلسطينية التي يتم جلاء
اليهود عنها.
ومما لا شك فيه
أن هذا الاتفاق أيضا يثلج صدر كيسنجر الذي يسعى لكسب أمجاد شخصية في نطاق السياسة
الأمريكية الخارجية ويرضي ميوله اليهودية والصهيونية. وقامت قائمة المنظمات
الفدائية المتطرفة منها والمعتدلة وصدرت عن زعمائها تصريحات فورية ردوا فيها على
البيان الثنائي بين مصر والأردن واعتبروه طعنة نجلاء في صدر العمل الفدائي، بل في
صدر القضية الفلسطينية نفسها، وكانت مؤتمرات صحفية ومهرجانات شعبية أعلن في بعضها
تلميحًا أو تصريحًا أن هناك مؤامرة لتصفية العمل الفدائي وخطة لتمييع القضية
الفلسطيني والمساومة عليها.
وطلبت مصر تأجيل
موعد انعقاد مؤتمر القمة العربي بحجة محاولة الإصلاح بين الأردن والفدائيين
ومحاولة إقناع الفدائيين والدول العربية بضرورة الموافقة على البيان الذي صدر عن
السـادات والحسين، وحاولت مصر أن تفسر هذا البيان بأنه لا يعني إلا تمثيل الملك
حسين للفلسطينيين الموجودين في الضفة الشرقية فقط أما الضفة الغربية فوديعة عنده
حين تحررها كما كانت غزة وديعة عند مصر.
ومن الطبيعي ألا
تقنع مثل هذه التفسيرات المنظمات الفدائية فهي أدرى ببواطن الأمور وأعرف بما يعنيه
البيان السالف الذكر.
أما الدول
العربية الأخرى فأكثرها لم تر مبررا لتأجيل انعقاد مؤتمر القمة، ومعنى ذلك أنها لا
توافق على ما جاء في البيان الثنائي وترى أن منظمة التحرير لا تزال هي وحدها
الممثل الشرعي للفلسطينيين، وقد أعلن بعضها ذلك صراحة مشيرة إلى ما ينطوي عليه
البيان من خطورة وما يحتويه من بذور الفرقة المتوقعة في الصف العربي، كما أن بعض
الدول العربية تطوع لمحاولة إيجاد صيغة من التفاهم بين الأطراف العربية المختلفة
في الرأي حول هذا الموضوع، وفريق ثالث يقف مناهضًا لسياسة الحل السلمي على أي شكل
كانت. والذي يبدو لمن يتابع الأحداث السياسية التي تدور في منطقتنا العربية أن
هناك اتجاها مستميتًا للسير في طريق الحلول السلمية مهما كلف ذلك من ثمن، ولو كان
هذا الثمن ضياع الحقوق التاريخية للعرب والمسلمين في فلسطين ومقدساتها.
1- زعماء عرب
يصرون في كثير من تصريحاتهم للصحافة والإعلام الغربي أنهم ماضون في الحل السلمي
ولا يمكن أن يثنيهم عن ذلك شيء، ويحسبون لهذه التصريحات ألف حساب فلا يسيئون إلى
حكام "إسرائيل" بل لا يتعرضون إلى ذكرهم إلا بلطف وتقدير.
2- أمريكا تدبر
من الآن أمر المحافظة على أمن "إسرائيل" واستقلالها وتحاول بأي وسيلة
ولو مكشوفة أن توجد لها مكانا قريبًا من "إسرائيل" وجاراتها تستطيع منه
أن تراقب وتخطط وتوجه وتهدد لتسيير سياسة المنطقة كلها كما تحب وترضى.
3- جواسيس
"إسرائيل" في الوطن العربي لا تثار حول اكتشافهم أي ضجة ويسرب معظمهم
إلى الخارج ويعفى عن الباقين.
4- اليهود
المقيمون في بعض البلاد العربية يتسربون منها إلى "إسرائيل" بأعداد
هائلة والسلطات العربية تتعامى وتتغاضى.
5- صحفية مصرية
تدخل "إسرائيل" بجواز مصري لتتاح لها الفرصة كي تدرس حال المجتمع
"الإسرائيلي" والمنظمات "الإسرائيلية" على الطبيعة.
6- ثم تكريس
للعمل المنفرد في الدول العربية المواجهة "لإسرائيل" لتسعى كل دولة بكل
طاقاتها لكسب أكبر قدر من أرضها المغتصبة.
7- محاولة جادة
لإبعاد الفلسطينيين عن التأثير في سير محادثات السلام وذلك لأن مخطط هذه المحادثات
يسعى إلى التضحية بقضيتهم من أجل الحصول على ما يمكن الحصول عليه من مكاسب لكل
دولة على حدتها.
8- وما لم يتوقف هذا الركض وراء هذه الحلول فسترتطم أمتنا بكوارث تظل أجيالنا تعاني من وطأتها عشرات السنين(1).
للمزيد:
1- وانقلب السحر على الساحر الصهيوني!
3- «هولوكوست» اليهود و«محرقة»غزة.. هناك فرق!
5- تدمير مساجد غزة.. جريمة لا تُغتفر
7- المشرَّدون ما زالوا في العراء
8- فلسطين.. بين شروط الاستسلام اليهودية وضغوط الأنظمة العربية
__________________
(1) نُشر بالعدد
(211)، 11 رجب 1394هـ/ 30 يوليو 1974م، ص44.