مفاتيح النهوض بتجارب الإسلاميين في الحكم

منذ أن بدأت
الحركات الإسلامية تشق طريقها نحو سدة الحكم في العالم العربي والإسلامي، ظهرت
أسئلة ملحة حول قدرتها على إدارة السلطة وتحقيق تطلعات الشعوب، خاصة أن أغلبها لم
يحالفه النجاح لأسباب مختلفة، في دول عربية عدة، بعد ثورات «الربيع العربي»، ما
كشف عن نقاط قوة وضعف بارزة،
وتمثلت أهم نقاط
الضعف في غياب التقييم المنهجي والتقويم الفعال لأداء الإسلاميين، الذي كان من
أبرز العوامل التي أعاقت هذه التجارب عن تحقيق استقرار سياسي واجتماعي دائم.
ونعني بالتقييم
تحليل النتائج والممارسات، التي ينبني عليها التقويم، بمعنى تصحيح المسار، وهما
أداتان لا غنى عنهما لأي حركة تسعى للنهوض بتجربتها، فكيف يمكن لهذين العنصرين أن
يشكلا مفتاحاً لنجاح الإسلاميين في الحكم؟
مفتاح الإجابة
يكمن في السياق التاريخي لهذه التجارب، فعندما وصل الإسلاميون إلى السلطة في أكثر
من دولة عربية، كانوا يحملون رؤية طموحة مستمدة من عقود من العمل الدعوي
والاجتماعي، لكنهم سرعان ما واجهوا تحديات هائلة، على رأسها: ضعف الخبرة الإدارية،
والانقسامات الداخلية، والمعارضة الشرسة من القوى العلمانية، ومؤامرات الدولة
العميقة، والتدخلات الإقليمية والدولية.
ووفق دراسة
أجرتها جامعة جورجتاون عام 2015 بعنوان «The Muslim Brotherhood’s Governance Failure»، فإن أحد أسباب فشل التجربة الإسلامية في
مصر تمثل في غياب آليات تقييم داخلية فعالة؛ ما جعل الحركة غير قادرة على
الاستجابة للأزمات بسرعة.
وفي تونس، كانت
تجربة حركة النهضة بعد ثورة 2011م مختلفة نسبياً، حيث أظهر الحزب قدرة أكبر على
التكيف لسنوات، لكنها لم تخل من أخطاء مثل سوء إدارة الأزمات الاقتصادية، التي
كانت ذريعة للانقلاب على المسار الديمقراطي في البلاد.
تؤكد هذه
التجارب أن النجاح في الحكم لا يعتمد فقط على النوايا الحسنة أو الشعارات
الإسلامية، أو حتى التخطيط الجيد لنجاح المشروع، بل يعتمد على القدرة على تقييم
الأداء وتقويمه باستمرار، والقدرة على مواجهة تحدياته ومؤامرات أعدائه.
فالتقييم يتيح
للحركات الإسلامية فهم أين تقف فعلياً على أرض الواقع، سواء في سياساتها
الاقتصادية أو تواصلها مع الشعب، وليس وفق نموذج تحليل قائم على «التفكير بالتمني».
وعليه، فإن
التقييم المبكر كان من الممكن أن يساعد في اكتشاف الفجوة بين الخطاب الديني
والواقع السياسي، ما كان سيوفر فرصة لتعديل هذا الخطاب، أما التقويم، فهو الخطوة
التالية التي تحول التحليل إلى فعل، وهو الخطوة التالية لنجاح عملية التقييم.
يقول الله تعالى
في كتابه العزيز: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا
سَعَى {39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) (النجم)؛ ما يعني أن السعي يحتاج إلى تقييم لمعرفة مدى نجاحه،
ثم تقويم لتحسينه، ولو أن كثيراً من الإسلاميين استلهموا هذا المبدأ القرآني في
تطبيقهم العملي لكانوا أكثر قدرة على مواجهة التحديات، خاصة في العقد الأخير.
غير أن نجاح هذه
العملية يعتمد على عوامل عدة، فالحركات الإسلامية تحتاج داخلياً إلى ثقافة نقد
ذاتي قوية، وهو ما يغيب عن أغلبها للأسف، إذ غالباً ما نرى انغلاقاً فكرياً يرفض
الاعتراف بالأخطاء، وهو ما يعيق التقييم الفعال.
خارجياً، لا
يمكن إنكار أن الضغوط السياسية المدعومة بالتدخلات الأجنبية تشكل عائقاً كبيراً
ورئيساً أمام نجاح تجارب الإسلاميين في الحكم، وهو ما أكده تقرير صادر عن مركز
كارنيغي للشرق الأوسط عام 2014م، أشار إلى أن الإخوان في مصر لم يُمنحوا الوقت
الكافي لتقييم تجربتهم.
ويبرز ذلك أهمية
بناء مؤسسات قوية داخل الحركات الإسلامية، بحيث تكون قادرة على العمل تحت الضغط؛
ما يحفز قدرة العمل على الصعيد الفكري، الذي يمكن من خلاله تفعيل مبدأ «الشورى»
الذي أمر به الله في قوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، الذي يمثل أداة تقييم جماعية فعالة إذا طبقت بشكل
صحيح.
ومع ذلك، لا
يمكن تجاهل التحديات التي تعترض هذه العملية، فالانغلاق الفكري الذي أشرت إليه ليس
مجرد ملاحظة عابرة، بل هو واقع أكدته دراسات مثل تلك التي نشرتها مجلة «Journal of Democracy» عام 2016م، التي رأت أن الحركات الإسلامية تميل إلى التمسك
بخطابها التقليدي حتى في مواجهة الفشل.
كما أن ضعف
البنية المؤسسية بأغلب الحركات الإسلامية، يمثل عائقاً آخر، حيث تفتقر معظم هذه
الحركات إلى لجان تقييم مستقلة أو فرق عمل متخصصة، ومن واقع تحليل هذه الظاهرة نرى
أن التسرع في اتخاذ القرارات دون دراسة معمقة كان سبباً مباشراً في تعثر تجارب
عديدة.
يعلمنا النبي
صلى الله عليه وسلم أن «التأني من الله والعجلة من الشيطان» (صحيح الترمذي)، كما
يعلمنا القرآن أن العبرة ليست بالأماني والأحلام: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ
أَهْلِ الْكِتَابِ) (النساء: 123)، ما يذكرنا بأهمية التفكير العميق قبل الفعل، وهو درس
لم يُستوعب بالقدر الكافي في تجارب الإسلاميين بالحكم.
كيف، إذن، يمكن
التغلب على هذه التحديات؟ نعتقد أن الحل يكمن في تطوير آليات مؤسسية داخل الحركات
الإسلامية، ومنها على سبيل المثال إنشاء لجان تقييم مستقلة تضم خبراء في السياسة
والاقتصاد والاجتماع بما يمكن أن يوفر رؤية شاملة للأداء.
كما أن الانفتاح
على التجارب العالمية قد يكون مفيداً في إدراك «فقه الحكم» مع الحفاظ على الهوية
الإسلامية، بالإضافة إلى تعليم وتدريب الكوادر بشكل مؤسسي وفق هذا النمط، وكما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (رواه البخاري)،
والتفقه في إدارة الحكم لا يقل أهمية عن التفقه في الشريعة، وهو ما أثبتته تجارب
السنوات العشر الماضية.
إن التقييم
والتقويم ليسا مجرد عملية تقنية، بل التزام لن يتحقق إلا بوازع أخلاقي وديني يغلب
تحقيق العدالة والمصلحة العامة على نوازع الأدلجة غير المبرهنة علمياً، وتجارب
الإسلاميين في الحكم لن تنهض إلا إذا تحولت هذه العملية إلى جزء من ثقافتها
التنظيمية.
التوازن بين
التمسك بالمبادئ الإسلامية والتكيف مع الواقع السياسي السبيل الوحيد للنجاح، وإذا
استطاعت الحركات الإسلامية أن تتجاوز تحدياتها الداخلية والخارجية وتبني منهجية
علمية للتقييم والتقويم فستكون قادرة على تقديم نموذج حكم يجمع بين القيم
والكفاءة، خاصة أن لديها مقومات الحكم الشعبي، الذي تفتقر إليه كل الحركات العلمانية
في عالمنا العربي.