الخُلُق الحسن.. عُدة قرآنية بين يدي رمضان

في هذه الأيام
المباركات، يستعد أهل الإيمان فيشحذوا هممهم لملاقاة رمضان، وثمة عدة من أعظم ما
يستقبل به المؤمن شهر القرآن، وهي التخلق بأخلاقه، فهكذا كان الذي نزل عليه القرآن
صلى الله عليه وسلم، فقد كان مبالغًا في الأخلاق فيه، قال عبدالله بن عباس: «وكان صلى
الله عليه وسلم أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ
عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ
الْمُرسَلَةِ»(1)، حتى إنه لم يسع من عايشوه صلى الله عليه وسلم حين
سُئلوا عن أخلاقه إلا أن يقولوا: «كان خُلُقُه القُرآنَ»(2).
وفي هذه الأسطر،
نُثقل التصور عن قضايا منهجية تخص أخلاق القرآن، حتى تكون عونًا للمتلمس لها في رمضان
المبارك.
القرآن
كتاب عمل
في سبيل عرض
التصور الإسلامي عن الأخلاق، لا بد من القول: إن طبيعة القرآن الكريم أنه كتاب
عمل؛ لا اعتقادات خالية عنه، وإن الله لما امتدح أهل الإيمان ذكر أعمالهم، فقال
تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات 15)، ولمّا يجازي الناس يوم القيامة كذلك يجازيهم على
العمل، قال سبحانه: (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم
بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثية: 29)، وفي ضوء ذلك، فإن الأخلاق القرآنية لازمة الإيمان
وضرورته، ولذلك قُرن بينهما في الوجود والعدم؛ بل وفي الزيادة والنقصان، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: «أكْملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهُم خلقًا»(3).
مصدر
الأخلاق
وفي وسط تيه
الفلسفات وحيرتها في مصادر المعرفة بين الحسي والمثالي والحدسي وغيره، التي نقلت
الحيرة إلى فلسفات أخلاق متشرذمة لا ممسك لها؛ كان مصدر معرفة الأخلاق في الإسلام
واحدًا لا ثاني له؛ وهو الوحي، وانطلق من مسلَّمة أن أفهام البشر قاصرة وتقديرهم
لمصالح أنفسهم متفاوتة؛ فعليهم أن يستسلموا لخالقهم اللطيف الخبير؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، ويستقوا من وحيه ما شرع لهم من أخلاق.
مفهوم
الأخلاق وغايتها
وإن اختلفت
النظرة إلى معنى الأخلاق وغايتها، فقد أظهر الإسلام حقيقة جلية هي تلخيص الدين في
الأخلاق، فجعلها غاية البعثة النبوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُعِثتُ
لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»(4)، فالأخلاق في نظر الإسلام طاعة الله
بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وهكذا لا يحار من أراد معرفة حميد الأخلاق
وإنفاذها؛ فليس عليه إلا قصد كتاب الله عز وجل والسُّنة المفسرة له، وهو مُعان في
ذلك بواعز داخلي يخبره بأنه مثاب على ما تخلَّق به في الآخرة، فيكون بذلك دينه
متينًا محوطًا بحفظ مصدره وظهور غايته.
شمول
الأخلاق القرآنية
ولمَّا أرسى
الإسلام مبدأ تلخيص الدين في الأخلاق عُلم بذلك أنها شاملة لمساحات واسعة لا يتطرق
خيال غير المسلم لها، فهي شاملة لمساحة الخُلُق مع الله، ومع الدين، ومع الناس،
ومع البيئة، وفي كل منها أبواب لا تحصى كثرةً ولا يُحاط بعظمتها علمًا، وبه يُعلم
أن (رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) (الإسراء 60)، فلا خُلُق يصلحهم في علاقتهم به سبحانه أو مع دينه
الذي شرعه أو مع من سواهم من الناس على مختلف أحوالهم وأفكارهم وعاداتهم أو مع
البيئة المحيطة بهم بكائناتها وجماداتها وغيره؛ إلا وعلمهم عز وجل إياه، وليس ذلك
لغير دين الله تعالى، والقرآن خير دليل على هذا الشمول، وهذا من أعظم الأبواب التي
تُلتمس في كتاب الله لمن أراد أن يكون قرآنًا يمشي على الأرض.
وجود
النموذج المتخلق بأخلاق القرآن
وإن البشر مهما
سمت نفوسهم ودقَّت أفهامهم محتاجون إلى نموذج عملي يقتدون به، فبُعث فيهم الأنبياء؛
(وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا
نَذِيرٌ) (فاطر: 24)، يُظهرون لهم ما في الرسالة من أخلاق واقعًا حتى لا
يفترقوا في فهمها أو تطبيقها، وإن لنا في أمة الإسلام هذا النموذج العملي؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21)، وحتى فيمن بعده؛ فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى
القدوة منهم، فقال: «إنِّي لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكُم فاقتَدوا باللَّذَينِ
مِن بعدي وأشارَ إلى أبي بَكرٍ وعمرَ واهتَدُوا بِهدْيِ عمَّارٍ وما حدَّثَكم ابنُ
مسعودٍ فصدِّقوهُ»(5)، وفيمن بعدهم كذلك؛ فقد ذكر ورثة الأنبياء، فقال صلى
الله عليه وسلم: «وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ»(6).
المسؤولية
الشخصية
والقرآن قد
قلَّد المسؤولية الأخلاقية عين الشخص، فلا براغماتية تلهو به عن فعل الواجب، ولا
غياب للغاية تصرف نظره عن الثواب الذي ينتظره إن التزم والعقاب إن فرَّط؛ (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ
فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) (الإسراء: 13)، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَرْداً) (مريم: 95)، ونهى عن أن يصير المرء إمعة يفسد بسبب فساد الناس، قال
الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى
اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة: 105)، ويصدقها السُّنةُ التي امتدحت الصالحين وقت فساد
الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإسلامَ بدأَ غريبًا وسيعودُ
غريبًا كما بدأَ فطوبَى للغرباءِ»، قيلَ: ومنِ الغرباءُ؟ قالَ: «النُّزَّاعُ منَ
القبائلِ»(7).
المسؤولية
المجتمعية
وكما أوجب
الإسلام التزام الأخلاق القرآنية في الأفراد، فقد ألزم بها المجتمعات لتقويم من
فسد من الأفراد، وهنا تكمن خيرية هذه الأمة؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، ويصدقه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ
القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى
سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في
أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو
أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ
يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ
نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا»(8).
وأخيرًا؛ فرمضان
فرصة عظيمة لتلاوة القرآن حق تلاوته، بالوقوف على معانيه وتلمس أخلاقه والتخلق بها
واقعًا، فيا باغي أحسن الأخلاق أقبل.
________________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد
وأبو يعلى والطحاوي، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني.
(3) رواه أبو
داود، والترمذي، وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(4) رواه أحمد،
والبخاري في الأدب المفرد.
(5) رواه
الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، وصححه الألباني.
(6) رواه أبو
داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وصححه الألباني.
(7) رواه
الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وهو متواتر.
(8) رواه
البخاري، والترمذي، وأحمد.