من جوعنا وعطشنا سنبني دولة الأحرار
![](https://mugtama.com/storage/uploads/YyB9RCh8l69D3zsc1ldxVQsWtSjKw9r40KXG8aVb.jpg)
د. نزار عبد القادر ريان (1)
اشتهر عن العرب الأوائل الذين تشرفوا بحمل الرسالة الخالدة، ونزل القرآن الكريم بلغتهم قولهم: تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها، يشيرون إلى عظمة الإباء، وبلوغ الغاية في الشموخ والاستعلاء، من أن يأكلوا لقمة ذل أو مهانة، ومما ذاع بينهم قول شاعرهم:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ** حتى أنال به كريم المأكل
ثم جاء إسلامنا العظيم، ليؤكد معاني الإباء عند هؤلاء الأمجاد، فصاروا قمر الصحراء وبدرها، يهتدي بهم الخلق في الظلمات.
واليوم، تعلو راية الجاهلية الأمريكية، وينعق البوم في الورى، فيقع أبناء العرب المسلمين أسرى عند أكثر أهل الأرض خسة وانحطاطا، فيعتقل الفلسطيني ربع قرن من الزمان، لأنه فكر مرة واحدة فقط، كيف يمكن أن يزور داره التي اغتصبها السجان قبل خمسين سنة، إن نجا من قصفه وقنصه.
وبين يدي السجان تقرقع السياط والأقفال، وتصفد الأيدي والأقدام، وتلبس الأكياس السود المنتنة في الرؤوس وتعصب العيون، وتنتف اللحى، وتحلق الشوارب، ويسب الدين والإسلام والإيمان والأمة، ويتحكم الخسيس بالكرام، فإن صفق بيديه مرة واحدة فعليهم القيام، وإن صفق مرتين، فعليهم الجلوس، ويحلو له اللعب بالمعصوبة أعينهم المقيدة أيديهم المحرومين من النوم أيامًا وأسابيع.
هذه لعبة السجان اليهودي، يتضاءل أمامها ما يقع في سجن أبو غريب العراقي، أو بقية سجون الصحراوات العربية التي تحذو حذو السيد الأمريكي، فتشيد السجون على غرار سجون الأمريكان، فيجرد المعتقلون من ثيابهم، ويمنعون من قضاء الحاجة منفردين، فيحار المعتقلون الأحرار، فهل يمكن السكوت؟ أو يحتمل الاعتداء على الكرامة؟ وما بقيت لنا غير الضلوع بنادق نذود بها عن أعراضنا بها يدافع عن نفسه الأسد: أليف البندقية المعشوقة بين الجبال، تسبح معه والطير (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (يوسف: ۳۳). يترنم مع الضواري والسباع "بل فاسقني بالعز كأس الحنظل"، لا ترى له دمعة وإن جلت مصيبته، له رقة النسمة الباردة في ليل الزنازين الكالح، وهدوء كهدوء العذراء في خدرها.
هذا هو المعتقل الفلسطيني، حين يلقى بين قيد يرتوي دم الفؤاد، وبين سجان يراود الكرامة أن تزول، فلا يحار البطل أو يتردد، فالخيرة للشهامة والبطولة والفداء.
تحسب دولة البغي أن أيامها خالدة، وما وعظها غياب الإمبراطوريات القديمة والحديثة، وهي لم تدرس من التاريخ ما يبصرها بالقيم، فالأنظمة إذا أوشكت على الموت قاومته بالإرهاب والتعذيب والتظاهر بالقوة، والحياة تتعلق بالقتل والدمار والدماء، فكلما أشرفت دولة الاغتصاب على الهلاك تشبثت بما تتصوره يزيد في عمرها، كما كان الاتحاد السوفييتي يشيخ ويذبل، ويشيخ زعماؤه المسنون ويذوون، فكانوا يحاربون هذه الشيخوخة والنهاية بمساحيق إرهابية، ويحاولون استعادة الشباب، وإشعار العالم بأنهم ما زالوا أقوياء، فكانت مساحيق التجميل آخر أنفاس الاتحاد السوفييتي.
هكذا يبدو الحال لدولة الاغتصاب والعدوان التي ما زالت تغالي في المساحيق، بل وزراعة الأعضاء، وجلب المغتصبين من كل مكان، فتبني السور العظيم، وتقتل الحياة والمياه والشجر، وتقيم في كل بقعة سجنا ومعتقلًا، يشرف عليه وزير الرعب الداخلي، نيرون دولة العصابات، يتهدد المعتقلين مرة إثر أخرى: «ليضربوا عن الطعام حتى يموتوا جميعا، فلن نحقق لهم مطلبا واحدا.. ليموتوا جميعا».
ليموتوا جميعا، وما الغرابة.. فهذه سياسة الدولة المذعورة التي حولت فلسطين إلى لعبة سهام قذرة، فقد تناقلت الأخبار اللعبة الجديدة لأفراد جيش العصابات الصهيونية، الذين كلما قتلوا فلسطينيا رسموا علامة ضرب على بنادقهم، ويتبارون فيمن يجمع أكبر عدد ممكن من العلامات، ليصير قدوة يتعلم منه بقية الجند كيف تصير بلادنا ساحة قنص بشري واصطياد.
سنواصل الإضراب يا نيرون، وستمضي سفينتنا حتى تغيب شمسكم، ويزول نجمكم، لأننا مع الوطن المسلوب نصبح ونمسي، نقتات حكاياته مع العلقم والقتاد، وأنتم تعيشون على امتصاص الدماء، تحسبون حل مشكلات الدولة بالسوط والإرهاب ونشر الخوف والذعر بين الناس، فيتولى أشباح الليل، وأشباه الرجال أمنكم، وتجعلون الكون كله مكتب تحقيق واستجواب على المعابر والحدود بين الأزقة والسكك في كل حي وحارة، وتنشرون الطائرات تتجسس على الناس وتحصي الأنفاس، تتلصصون وتسمعون، فكل الخلق متهمون بمعاداة السامية، يتربصون بكم ويتهددونكم، تحسبون كل صيحة عليكم، فتتوعدهم العصي الأمريكية بالخوف والجوع والذل والعبودية.
سنضرب عن الطعام، وسنقيم في كل حي خيمة اعتصام تساند المضربين عن الطعام، لأننا قررنا أن نتحمل مرارة الظمأ والجوع والحرمان، لتحقيق مطالبنا في الحياة الحرة الكريمة، فنحن أهل حق لنا الوطن كله، أنسابنا فيه ساطعة كعمود الشمس وعرفنا فيه غير دساس، لم تجلب كالمتاع من بعيد.
سنقاوم السجان حتى ننال حقوقنا التي تكفلت بها أنظمة الأمم المتحدة العمياء، التي تبصر الجوع المزعوم في دارفور، ولا ترانا تحت سياط الجلادين اليهود، نموت جوعًا لنيل كرامتنا.
سنقاسي آلام الجوع والعطش حتى تعلم يهود أن في ديننا قوة وعزمًا، يمكن أن ينتزع من شدق الأفاعي حقنا المسلوب (2).
(1) عضو القيادة السياسية الحركة حماس.
(2) نشر في العدد: 1614 بتاريخ: 25 رجب 1425هـ - 10 سبتمبر 2004م.