الخرافة في الزمن الأمريكي!
نحن نعيش الآن في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، ولا شك أن الإنسان قد حقق تقدمًا علميًّا انعكس بشكل مباشر على حياته.
ورغم هذا المستوى العظيم من التقدم الذي بلغه الإنسان وسعيه الحثيث في زيادة رصيده العلمي، فإن شراهته لمزيد من التقدم العلمي تزداد أكثر إلى الحد الذي يجعله يلجأ إلى الخيال فيملأ به المسافات التي تفصله عن الحقيقة.
ومما ساعده على ذلك تقنيات وسائل الإعلام، وخيال خصب ينقلك بالصوت والصورة إلى عوامل أخرى في الفضاء الخارجي والكون الفسيح يصورها الخيال في مستوى رفيع من التقدم يجعلنا نحن أهل الأرض نبدو أطفالا بالنسبة لما حققته من تقدم.
ولذلك، فقد راجت قصص وأفلام سينمائية كثيرة حول هذا الموضوع، وكانت السينما الأمريكية هي الرائدة في هذا المجال؛ نتيجة لما توفر لديها من إمكانات مادية، وكذلك لما في طبيعة الشخصية الأمريكية من حب المغامرة ولو في الخيال، كذلك فإن هذه الأفلام والمواد الإعلامية التي تعرض علينا لها هدف إعلامي موجّه هو بث أفكار معينة عن نظم سياسية ومجتمعات معينة «وهي المجتمعات الغربية»؛ لإعطاء انطباع عنهم لا يلبث أن يتحول إلى حقائق في أذهان مشاهدي هذه الأفلام والمواد الإعلامية، وخاصة عندما تكون موجهة من حضارات ذات نفوذ وسيطرة إلى شعوب متخلفة تعتمد في كثير من أبجديات حياتها اليومية، بل خبزها على إفرازات هذه الحضارات الغربية.
وهذا ما يجعل هذه الشعوب المتخلفة تقنيًا، بل ونظمها الحاكمة، تشعر بالعجز الحضاري والدنية أمام منجزات الحضارة الغربية الأمريكية؛ وهذا بالتالي ينسحب على أصحابها، فالإنسان الأبيض ذو القامة الفارهة والشعر الأشقر المسترسل إنسان ليس كبقية البشر، يتمتع بأخلاق الفارس الذي يضحي في أحيان كثيرة بحياته من أجل طفل أسود في مجاهل أفريقيا أو حيوان معرض للانقراض، وهو كذلك الذي يواجه الشر بعنف وقسوة ويعمل على نصرة المظلومين ورد الحقوق إلى أصحابها، كما أنه يتمتع بقوة خارقة تجعله لا يجري عليه ما يجري على البشر العاديين من الملونين ذوي البشرة السوداء الداكنة أو الأقل دكنة، فكثيراً ما لا يؤثر فيه الرصاص! كما تفشل دائماً محاولات قتله وينجو بأعجوبة لينتصر في النهاية على خصمه بذكائه قبل قوته الخارقة التي تتمثل في قدرته على الطيران في الهواء والغوص في الماء وقطع الفيافي والصحراء بدون ماء، وربما ساعده على ذلك بعض التقنيات الحديثة التي كثيراً ما تعطي صفات شبه إنسانية مثل السيارات التي تحب وتكره وتتحدث وتفكر، وربما بعض الحيوانات أيضاً، «لا شك أنك شاهدت أفلام رامبو والسيارة التي تتكلم، والرجل الأخضر، وهذه أمثلة ليست للحصر».
وتتحول كل هذه الخرافات إلى حقائق في عقول الشعوب المسكينة المتخلفة حضاريًّا، بينما يخفى على أهل هذه البلاد الصورة الحقيقية للإنسان الأوروبي والأمريكي؛ لأن أهل هذه الشعوب لا يقرؤون إلا ما يفرض عليهم وبالكيفية التي يحددها حكامهم الذين هم في الغالب ينفذون سياسات هذه الدول سواء بوعي منهم أو بدون وعي، بل أحياناً إذا اطلع ذو الرأي على عيوب هذه الحضارة وأهلها اعتبروا ذلك من هامشيات هذه الحضارة.
ووجود مثل هذه السلبيات شيء عادي جداً ولا تؤثر في موقف أهل هذه الحضارة، بل تتحول فكرة قبول هذه الحضارة بحلوها ومرها إلى دعوة ينادي بها صفوة أهل الفكر في بلاد التخلف انظر -على سبيل المثال- إلى كتابات طه حسين خاصة كتابه مستقبل الثقافة في مصر، وكذلك كتب الكاتب سلامة موسى وغيرهما، وهكذا تسعى هذه الأدبيات الإعلامية مستغلة التقنيات الحديثة في تكبير الصغير وتعظيم الحقير وتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق.. وهكذا(1).
____________________
(1) نشر في العدد (1062)، 29 صفر 1414هـ/ 17 أغسطس 1993م.