رسالة إلى الضمير الأمريكي
يعيش الناس هذه الأيام، وأمريكا هي القطب الأكبر على كوكب الأرض، وهي قوة انفردت بها، بعد انهيار منافسها الاتحاد السوفييتي، الذي سقط على أيدي أبنائه، لأنه لم يكن يملك مقومات البقاء.
وإذ صارت أمريكا بلا منافس ازدادت فيها رغبة التحكم وشهوة السلطة، ولا غرابة فقد ورثت عن الرومان عبادة القوة، كما ورثت عن اليونان عبادة الجمال.
وحضور أمريكا ماثل باستمرار أمامنا من خلال البضائع والأسلحة والسينما والقرار، والملابس، والأزياء، والسيارات.. و«الفيتو» أيضًا.
وعليه يمكن لنا أن نقول: إن كوكب الأرض يعيش الآن العصر الأمريكي، وإن الناس في هذا الكوكب استولى عليهم شعور حاد بأنها قوة لا تغلب ولا تقهر ولا تخترق، ولذلك كان ما حدث من تفجيرات هائلة فيها.
يوم الثلاثاء 11/ 9/ 2001م هزة هائلة عنيفة للجميع أصابت الأمريكان أكثر مما أصابت سواهم، وأنا واحد ممن أصابتهم هذه الهزة فوجدتها تملي على هذه الرسالة، وهي مجموعة من العبر والتساؤلات والخواطر.
نحن المسلمين نريد الخير لشعوب الأرض جميعًا بمن فيهم الشعب الأمريكي، فديننا أكثر الأديان تسامحًا، وحضارتنا أكثر الحضارات تسامحًا، ونحن نقر، بل ندافع عن حقوق الآخرين، في اختيار خصوصيتهم الثقافية والدينية واللغوية، والاجتماعية كما يشاؤون، وتاريخنا أكبر شاهد على ذلك، لأننا نحترم كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، وكما أننا نمد يد الخير لأمريكا شعبًا نريد الخير لها دولة، فليس لنا معها مشكلة توقد العداوة أو تستثير الأحقاد.
المشكلة هي في المشروع الأمريكي الذي يتبناه عدد من قادة أمريكا لدوافع وحسابات مختلفة معقدة خاطئة، ينحازون فيها لـ«إسرائيل» جهارًا نهارًا، متوهمين أن في هذا الانحياز الظالم مصالح لبلدهم، وهذا الانحياز من أكبر أخطاء هؤلاء القادة، وإذا أراد صناع القرار في أمريكا معرفة الأسباب التي تشيع كراهيتهم بين الناس، فإن هذا الانحياز في طليعتها.
مصلحة أمريكا في التعامل العادل معنا، لأننا أمة ممتدة في الزمان والمكان والإنسان والعقيدة والثروة، والقضاء علينا هو المستحيل بعينه، وقد خرجنا من غزو الصليبيين والتتار منتصرين، علمًا بأننا كنا أضعف مما نحن عليه الآن وشراسة الغزو آنذاك كانت أكبر مما يراد بنا الآن.
إن لله عز وجل سنناً ونواميس في قيام الدول والحضارات، وهذه السنن عادلة ومحايدة.. والاغتصاب الصهيوني لفلسطين مخالف لهذه السنن والنواميس.
ولذا، فهو زائل لا محالة، ونحن باقون لا محالة، ونحن نحتمل ألف هزيمة وهزيمة ونبقى، والصهاينة لا يحتملون هزيمة واحدة فهل من مصلحتكم أيها الأمريكان ترك الحقيقة الباقية والانحياز إلى الوهم الزائل؟
ثم إن انحيازكم مخالف للأسس التي قام عليها نظامكم من حرية وتعددية واحترام حقوق الآخرين في تقرير مصيرهم، فهل يحق لكم أن تنعموا بما تختارون وتحرموا الشعب الفلسطيني من اختياره؟
اليهود -في جملتهم– أناس لا يحفظون الجميل لأحد قط مهما أعانهم، وحين اشتعل العالم المسيحي كله غضبًا عليهم، لاعتقاده أنهم صلبوا المسيح عليه السلام.
كنا نحن الواحة الآمنة التي وفرت لهم فرصة العيش الكريم، ومع ذلك فعلوا بنا.. بدعمكم ودعم سواكم ما تعلمون، فهل تتوقعون أن يحفظوا لكم الجميل وتاريخهم بين أيديكم ينبئ عن فعالهم وارجعوا إلى التوراة والتلمود، لتعرفوا أنهم يريدون بكم وبسواكم الشر، وارجعوا إلى القرآن الكريم لتعرفوا أننا نريد بكم وبسواكم الخير، وارجعوا أيضًا إلى نصيحة بنيامين فرانكلين التي وجهها عام 1789م إلى قادة بلادكم حين اجتمعوا ليرسموا مستقبلها ويقرروا دستورها، لقد طالبهم بمنع اليهود من دخول أمريكا، لأنهم يأتون إليها ضعافًا، أو هاربين فما يلبثون قليلًا أو كثيرًا حتى يسيطروا عليها، وها هي بلادكم بعد قرنين من هذه النصيحة تدفع ثمن إغفالها وتجاهلها.
المجتمعات الذكية ومثلها الأفراد والحكومات والحضارات تتخذ من المحن فرصًا للمراجعة فتصبح المحنة منحة، فهلا اتخذتم مما جرى في يوم الثلاثاء الأسود فرصة جادة للمراجعة، ومعرفة الصواب والاحتفاظ به ومعرفة الخطأ وتجاوزه.
إنها فرصة تاريخية ثمينة فلا تضيعوها.. إن من حقكم وحق كل عباد الله في هذا الكوكب أن تحرصوا على أمنكم، وإن السبب الأكبر لتحقيق الأمن هو العدل، جاء رسول کسرى إلى المدينة المنورة يحمل رسالة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، فوجده نائمًا على الأرض دون حارس أو حاجب، فأنطقته فطرته يومذاك بجملة رائعة دخلت التاريخ، قال موجهًا خطابه إلى الخليفة: «عدلت فأمنت فنمت».
أنتم الآن في احتياطات أمنية واسعة تتخذونها تكلفكم الكثير مالًا ووقتًا وجهًدا وأعصابًا ماذا أنتم فاعلون إذا ازداد مسلسل الكراهية والتاريخ يعلمنا أن الدم يستسقي الدم وأن العنف يقود إلى مزيد منه؟
كان الرومان أيام وثنيتهم يحاربون المسيحيين، وكانوا في بعض الأحيان يعاقبون من اختار الدين الجديد بإلقائه إلى ساحة فيها أسود جائعة مفترسة، ويروي التاريخ أن اثنين من الجمهور كانا يعتنقان الدين الجديد كلما أكلت الأسود الجائعة واحدًا يأسى المسلم، بل وكل إنسان حر الوجدان حي القلب، لما يصيب الأبرياء من قتل ودمار وتنكيل في أمريكا أو فلسطين أو أي مكان آخر، فتعالوا لنتشارك في الأسى حيث ينبغي لنكون عادلين وتنفي تهمة الكيل بمكيالين.
من عيوب القوة أنها تحمل صاحبها على الغرور فينسى الأمن والعدل والإنصاف وينساق وراء غريزة البطش وشهوة التسلط وازدراء الآخرين عندها يفقد البصيرة الهادية فتلحقه سُنة الله التي لا تتخلف، فيستعدي الآخرين من الخارج، ويتآكل هو من الداخل، والسيد الحقيقي للكون هو الله عز وجل، وسيادة البشر عارضة ومؤقتة، فهل لكم أيها الأمريكان أن تعوا هذا الدرس القديم الجديد، ثم إن بقاءكم قطبًا وحيدًا أمر لا يمكن أن يستمر فلا بد أن يظهر منافس لكم، وهذا من لوازم سُنة التدافع التي وضعها الله عز وجل؛ (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) (البقرة: 251).
وقد يكون المنافس الذي يتشكل الآن الصين أو أوروبا الموحدة أو نحن المسلمين.
فأحسنوا التعامل مع الآخرين ليحسنوا التعامل معكم حين تدور عجلة التاريخ وتختلف المواقع نحن المسلمين أمة واعدة موعودة، وخطنا البياني –مع الإقرار بكل عيوبنا– خط صاعد في محصلته النهائية، وسنكون بإذن الله قادة الحضارة في دورة آتية، بعد أن انهار معسكر الإلحاد في الاتحاد السوفييتي الهالك، وبعد أن بدأتم -أيها الأمريكان- تغرقون في مشكلات متزايدة تعالجون أعراضها الظاهرة لا أسبابها الكامنة والحكيم من يبصر حركة التاريخ ويستشرف المستقبل ويرصد القوة القادمة فيعمل على كسبها مدفوعًا بالمبادئ، أو بالمصالح أو بهما معًا، فاكتسبوا الحكمة ولا تشغلكم الصور عن الحقائق، والجزئيات عن الكليات، والكون لله ليس لنا ولا لكم، وسنن الله مطردة لا تتخلف، وقد سقط الاتحاد السوفيتي بأيدي أبنائه، وبأسرع مما كان يتوقع أكثر الدارسين تفاؤلًا(1).
_____________________
(1) نشر في العدد (1507)، 18 ربيع الآخر 1432هـ/ 29 يونيو 2002م.