نتنياهو و«إسرائيل الكبرى».. الأيديولوجيا التوسعية بين الواقع والخيال السياسي
أعاد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين
نتنياهو إشعال جدل قديم جديد حين تحدّث علنًا عن ارتباطه برؤية «إسرائيل الكبرى» التي تتجاوز حدود عام 1967م،
وتشمل مساحات من الأردن وسورية ولبنان ومصر.
هذا التصريح لم يأتِ من فراغ، بل
يعكس رؤية أيديولوجية راسخة في تيارات اليمين «الإسرائيلي»، ويكشف عن مسارات
سياسية محتملة قد تحمل المنطقة نحو مرحلة جديدة من التوتر والصراع.
ولا يمكن عزل تصريحات سابقة للرئيس
الأمريكي دونالد ترمب حول «صِغر مساحة «إسرائيل»
وضرورة توسعها» مجرد رأي عابر في السياسة الدولية، بل مثّلت نقلة نوعية في مستوى
الانحياز الأمريكي للمشروع الصهيوني، إذا كان الرؤساء الأمريكيون منذ عقود يدعمون
«إسرائيل» سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، فإن خطاب ترمب كشف صراحة عن رؤية تتماهى
مع الأيديولوجيا الصهيونية التوسعية، بل وتمنحها شرعية أمريكية مباشرة.
وحين نضع هذا الخطاب إلى جانب ما
أعلنه نتنياهو عن ارتباطه برؤية «إسرائيل الكبرى»، يصبح السؤال ملحًا: هل منح ترمب
«إسرائيل» الغطاء السياسي لتوسيع مشروعها خارج حدود عام 1967م؟ وهل باتت واشنطن
طرفًا مباشرًا في تكريس مشروع توسعي يهدد الأمن العربي؟
الجذور الأيديولوجية لرؤية «إسرائيل
الكبرى»
تصريحات نتنياهو ليست ابتكارًا
سياسيًا، بل استمرار لخطاب صهيوني قديم يرى أن المشروع الصهيوني لم يكتمل بعد، فمنذ بداية
القرن العشرين كانت فكرة «أرض الميعاد من النيل إلى الفرات» حاضرة في أدبيات بعض
المفكرين الصهاينة، وإن لم تكن سياسة رسمية معلنة.
لكن اليمين «الإسرائيلي»، خصوصًا بعد
حرب عام 1967م، وجد في السيطرة على الضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان وسيناء
تجسيدًا عمليًا لفكرة التوسع، ومع انسحاب «إسرائيل» لاحقًا من سيناء بعد
اتفاقية «كامب ديفيد»، ظلّت فكرة «إسرائيل الكبرى» حاضرة
في خطاب بعض السياسيين المتطرفين باعتبارها هدفًا بعيد المدى.
لماذا الآن؟ دوافع نتنياهو
يواجه نتنياهو ضغوطات كبيرة على
إثر السابع من أكتوبر وفشل القضاء على المقاومة
الفلسطينية وإرغامها على الاستسلام، مضافاً لمحاكمات الفساد والاحتجاجات الشعبية
حول سياساته الداخلية في مثل هذا السياق، يلجأ الزعماء عادة إلى الخطاب القومي
المتطرف لتوحيد الداخل وصرف الانتباه عن أزماتهم، لذلك تم إعادة إحياء شعار
«إسرائيل الكبرى» لتمنحه دعمًا من اليمين القومي والديني الذي يشكل قاعدة بقائه
السياسي.
من جانب آخر، البيئة الإقليمية
العربية، فالمنطقة العربية تعاني من انقسامات وصراعات وأزمات سياسية داخلية لا حصر
لها، تصريحات نتنياهو ساهمت في شلّ القدرة العربية على صياغة موقف عملي موحّد بحجم
التصريح، فبعض الدول رأت في التحالف مع واشنطن أولوية تفوق أي التزام سواء بالقضية
الفلسطينية أو مواجهة تصريح يهدد الأمن القومي العربي، فمصر والأردن اللتان
ترتبطان باتفاقيات سلام مع «إسرائيل»، وجدتا نفسيهما بين مطرقة الشارع العربي
الغاضب، وسندان الغطاء الأمريكي لـ«إسرائيل».
من جانب آخر، بعض الدول الخليجية
وجدت في إدارة ترمب فرصة لتعزيز تحالفاتها مع واشنطن عبر التطبيع مع «إسرائيل»، وهو ما اعتبرته
«إسرائيل» اختراقًا إستراتيجيًا شجع نتنياهو للإعلان عن فكرة «إسرائيل الكبرى»، في
ظل هذا المشهد الممزق، يبدو المناخ مناسبًا لخطاب توسعي دون خوف من رد فعل عربي
موحّد وفعّال.
تاريخيًا، لم يكن لـ«إسرائيل» أن
تُعلن سياسات توسعية أو تُمارس احتلالًا دون ضوء أخضر أو تغاضٍ من الولايات
المتحدة، ومع استمرار التحالف الإستراتيجي بين واشنطن و«تل أبيب»، يدرك نتنياهو أن
تصريحاته ستُواجه بإدانات عربية، لكن دون إجراءات عملية من القوى الدولية الكبرى.
ردود الفعل العربية.. بين الغضب
والعجز
أصدرت 31 دولة عربية وإسلامية بيانًا
مشتركًا يدين تصريحات نتنياهو، في خطوة نادرة توحي بوحدة الخطاب الرسمي العربي،
كما اتخذت مصر إجراءات عسكرية رمزية في سيناء للتأكيد على جاهزيتها، غير أن هذه
الردود تبقى في إطار الخطاب السياسي والإعلامي، دون أن ترتقي إلى مستوى
إستراتيجيات مواجهة طويلة المدى، وكذلك الأردن بإعادة خدمة العلم؛ المفارقة أن بعض
الدول العربية الموقعة على اتفاقيات سلام أو تطبيع مع «إسرائيل» وجدت نفسها في
موقف محرج، إذ كيف تستمر في بناء علاقات إستراتيجية مع حكومة تعلن بوضوح نوايا
توسعية تمسّ سيادة دول عربية أخرى؟
انعكاسات على القضية الفلسطينية
خطاب «إسرائيل الكبرى» يعني فعليًا
دفن أي أمل في «حل الدولتين»، فإذا كانت «إسرائيل» تفكر في توسيع
جغرافيتها إلى ما وراء فلسطين التاريخية، فإن فكرة دولة فلسطينية مستقلة تصبح غير
واردة في عقلية قادتها، بينما الأخطر أن هذا الخطاب قد يُترجم إلى سياسات عملية
كتكثيف الاستيطان في الضفة الغربية وهو ما يحصل
بوتيرة سريعة الآن، بالإضافة إلى محاولات تهجير أو إضعاف الفلسطينيين في غزة عبر
حصار وتجويع وقتل جماعي، علاوة على ذلك فرض أمر واقع جديد في القدس، بالتالي فإن
تصريحات نتنياهو ليست مجرد كلام، بل هي انعكاس لعقيدة سياسية تتحرك بخطوات مدروسة.
التداعيات الإقليمية المحتملة
مصر والأردن كلاهما يملك حدودًا
مباشرة مع «إسرائيل»، وكلاهما ملتزم باتفاقيات سلام تاريخية («كامب ديفيد» عام
1979، و«وادي عربة» عام 1994م)؛ لذا فإن إعادة طرح
فكرة توسعية تمس أراضيهما قد تدفعهما لإعادة تقييم علاقاتهما الأمنية مع دولة
الاحتلال، من جانب آخر، «إسرائيل» لا تزال تحتل مزارع شبعا في لبنان والجولان
السوري، فتصريح نتنياهو قد يُفسر على أنه تمهيد لتكريس هذه الأراضي كجزء من
«إسرائيل الكبرى»؛ وهو ما سيزيد من احتمالية المواجهات مع «حزب الله» من جديد
وكذلك النظام السوري الحديث.
ولا بد من الإشارة إلى الدول الموقعة
على اتفاقيات «أبراهام» (الإمارات، البحرين،
المغرب) التي ستجد نفسها أمام سؤال وجودي: هل رهنت مستقبلها بعلاقات مع دولة لا
تخفي طموحاتها التوسعية؟ وهل سيؤدي ذلك إلى إبطاء أو حتى تجميد بعض مسارات
التطبيع.
لذا، رغم خطورة التصريحات، يبقى
مشروع «إسرائيل الكبرى» ليس مستحيلاً في الواقع، فالبيئة الدولية الراهنة التي لا
تخفي انحيازها لـ«إسرائيل» والعاجزة كلياً، لا يمكن أن تسمح بضم مساحات جديدة من
أراضي دول ذات سيادة ولكنها لا تستطيع الوقوف أمام إدارة ترمب الجديدة، كما أن أي
تحرك عسكري «إسرائيلي» خارج فلسطين التاريخية سيجر المنطقة إلى حروب واسعة لا
تستطيع «إسرائيل» أن تراهن على إيقافها أو تحمّل كلفتها.
التوسع «الإسرائيلي».. سلاح ذو حدين
تصريحات نتنياهو حول «إسرائيل
الكبرى» تمثل أكثر من مجرد زلة لسان أو خطاب تعبوي، بل تعبر عن انعكاس لعقلية
سياسية مستمدة من تصريحات سابقة لدونالد ترمب أن «إسرائيل صغيرة وتحتاج للتوسع»،
حينها لم يكن يعبّر عن جهل جغرافي، بل عن قناعة سياسية تنسجم مع اليمين «الإسرائيلي»
المتطرف، هذه الكلمات رغم بساطتها، فإنها تُترجم في العقل السياسي «الإسرائيلي»
إلى شرعية أمريكية لخطاب «إسرائيل الكبرى».
«إسرائيل» تعتقد أن اللحظة الإقليمية الممزقة
تمنحها فرصة لإعادة إنتاج أطماعها التوسعية، غير أن هذا الخطاب في المقابل قد يكون
سلاحًا ذا حدين، فهو يعزز مشاعر العداء الشعبي العربي والإسلامي تجاه «إسرائيل»
ويضعف شرعية مسار التطبيع، ويعيد إلى الواجهة ضرورة صياغة إستراتيجية عربية جماعية
لحماية الأمن القومي.
باختصار، «إسرائيل الكبرى» ورقة
سياسية يوظفها نتنياهو لاعتبارات داخلية وخارجية، غير أن خطورتها تكمن في قدرتها
على إشعال أزمات جديدة في منطقة لم تخرج أصلًا من دوامة الصراع.