الضفة الغربية.. استيطان يتمدد ومقاومة تتجذر (1)
الاستيطان في الضفة الغربية أداة تهويد وتغيير ديمغرافي

منذ احتلال
الضفة الغربية عام 1967م، عملت «إسرائيل» على فرض سيطرتها على الأرض عبر التوسع
الاستيطاني، الذي لم يكن مجرد مشاريع إسكانية، بل إستراتيجية ممنهجة لتهويد الضفة
الغربية وتغيير تركيبتها الديمغرافية، تهدف هذه السياسة إلى خلق واقع جديد يمنع
إقامة دولة فلسطينية أو إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين، واستمر في تكريس الهيمنة «الإسرائيلية»
على كامل فلسطين التاريخية.
الاستيطان..
الخلفية والتاريخ
بدأ الاستيطان «الإسرائيلي»
في الضفة الغربية فور احتلالها، حيث أقيمت أولى المستوطنات في المناطق المحيطة
بالقدس، مثل مستوطنة «غوش عتصيون»، وعلى مر العقود، توسع المشروع الاستيطاني
بوتيرة متسارعة بدعم حكومي مباشر، عبر توفير الحوافز المالية للمستوطنين وتخصيص
ميزانيات ضخمة للبنية التحتية الخاصة بهم.
استمر الاستيطان
في النمو والتمدد شيئاً فشيئاً، خاصة بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993م، حيث
استغلت الحكومات «الإسرائيلية» الاتفاق لإقامة مزيد من المستوطنات بدلًا من وقفها،
كما كان متفقًا عليه.
اليوم وبعد 32
عاماً من الاتفاقية، تنتشر المستوطنات في جميع أنحاء الضفة خاصة في مناطق «ج»،
التي تخضع لسيطرة الاحتلال الكاملة وفق تقسيمات أوسلو، علماً عند توقيع الاتفاقية
بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية وغزة 85 ألف مستوطن آنذاك.
الأهداف
«الإسرائيلية» من الاستيطان
- خلق
واقع ديمغرافي جديد:
تهدف «إسرائيل» إلى
زيادة أعداد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، لتغيير الميزان السكاني لصالحها،
في حين تشير الإحصاءات إلى أن عدد المستوطنين اليوم يتجاوز 900 ألف، يعيشون في
أكثر من 250 مستوطنة وبؤرة استيطانية؛ ما يعكس نجاح هذه السياسة في فرض أمر واقع
جديد.
- تقطيع
أوصال الضفة الغربية:
تم بناء
المستوطنات بطريقة تعيق التواصل الجغرافي بين المدن والقرى الفلسطينية؛ ما يحول
دون قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا، الطرق الالتفافية والجدار العازل والمناطق
الأمنية المغلقة كلها أدوات تُستخدم لتفكيك الضفة إلى كنتونات منفصلة، يسهل
السيطرة عليها.
- السيطرة
على الموارد الطبيعية:
تستهدف «إسرائيل»
عبر الاستيطان المناطق الغنية بالموارد المائية والزراعية، مثل الأغوار الفلسطينية
التي تحتوي على أهم مصادر المياه الجوفية، يستهلك المستوطنون كميات هائلة من هذه
الموارد، بينما يعاني الفلسطينيون من شح المياه نتيجة السياسات «الإسرائيلية» التمييزية.
- إحباط
أي حل سياسي مستقبلي:
كلما توسعت
المستوطنات أصبح تفكيكها أكثر صعوبة؛ ما يجعل أي حل سياسي للنزاع «الإسرائيلي»- الفلسطيني
أكثر تعقيدًا، تُستخدم المستوطنات كورقة ضغط في المفاوضات، حيث تفرض «إسرائيل»
شروطها تحت ذريعة الحقائق على الأرض.
الاستيطان..
والقانون الدولي
يعد الاستيطان «الإسرائيلي»
في الضفة الغربية غير شرعي وفق القانون الدولي، حيث تنص اتفاقية جنيف الرابعة على
منع القوة المحتلة من نقل سكانها إلى الأراضي التي تحتلها كما أكدت قرارات الأمم
المتحدة، مثل قرار مجلس الأمن رقم (2334) لعام 2016م، أن المستوطنات تمثل انتهاكًا
للقانون الدولي وتشكل عقبة أمام السلام، ورغم هذه القرارات، فإن «إسرائيل»
تتجاهلها، مستفيدة من الدعم الأمريكي والغربي، وسط ضعف القدرة الدولية على فرض
عقوبات تلزمها بوقف أنشطتها الاستيطانية.
آثار
الاستيطان على الفلسطينيين
تتم مصادرة
الأراضي وتهجير السكان من الأراضي الفلسطينية تحت ذرائع مختلفة، مثل إعلانها «أراضي
دولة»، أو تحويلها إلى مناطق عسكرية مغلقة، يؤدي هذا إلى تهجير مئات العائلات
الفلسطينية من أراضيها، كما يحدث في مناطق مثل مسافر يطا والأغوار الشمالية ومنطقة
طانا شرقي مدينة نابلس، في حين أن العنف الاستيطاني المُستخدم من قبل المستوطنون
كأداة لترهيب الفلسطينيين ودفعهم لمغادرة أراضيهم، تحت حماية جيش الاحتلال، فيما
شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا في هجمات المستوطنين، التي تشمل حرق المنازل
والمزارع، والاعتداءات الجسدية على المدنيين وكان لآثار الاستيطان عدة أوجه، لعلّ
أهمها:
- تدمير
الاقتصاد الفلسطيني:
أدى الاستيطان «الإسرائيلي»
إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني بشكل منهجي، حيث تصادر «إسرائيل» مساحات شاسعة من
الأراضي الخصبة التي يعتمد عليها الفلسطينيون في الزراعة، مما يقلل من الإنتاج
الزراعي المحلي ويزيد من الاعتماد على الاستيراد، كما تتحكم سلطات الاحتلال في
الموارد المائية، فتحد من وصول الفلسطينيين إلى المياه اللازمة للري والاستهلاك؛ ما
يؤثر سلبًا على الزراعة والصناعات المرتبطة بها.
إضافة إلى ذلك،
تفرض «إسرائيل» قيودًا مشددة على حركة البضائع والأفراد من وإلى المناطق
الفلسطينية، حيث تُقام الحواجز العسكرية ويتم التحكم في الطرق التجارية؛ ما يؤدي
إلى تعطيل حركة التجارة الداخلية والخارجية، هذا بدوره أضعف القطاع الخاص
الفلسطيني، وزاد من معدلات البطالة والفقر، وجعل من الصعب تطوير مشاريع اقتصادية
ناجحة.
كما يعاني
الفلسطينيون من تضييقات في قطاع الصناعة، حيث يُمنعون من الوصول إلى الموارد
الطبيعية في أراضيهم، مثل المحاجر والثروات المعدنية؛ ما يؤدي إلى تراجع القدرة
الإنتاجية للمصانع والشركات الفلسطينية إلى جانب ذلك، تؤدي الاعتداءات المتكررة من
قبل المستوطنين على المزارعين والتجار الفلسطينيين إلى خسائر اقتصادية فادحة؛ ما
عمّق الأزمة الاقتصادية وزاد من معاناة السكان المحليين.
لذا، فإن
الاستيطان «الإسرائيلي» يشكل العقبة الرئيسة أمام التنمية الاقتصادية الفلسطينية،
التي ما زالت تحرم الفلسطينيين من استغلال مواردهم الطبيعية، وقيدت حركتهم
التجارية، ودمرت القطاعات الإنتاجية؛ ما عرقل بناء اقتصاد مستدام وقادر على تلبية
احتياجات السكان.
- تقييد
الحركة وإغلاق الطرق:
يتم فرض نظام
معقد من الحواجز والطرق الالتفافية لخدمة المستوطنين؛ ما عمل على عزل المدن
الفلسطينية عن بعضها بعضاً، وجعل التنقل بين القرى صعبًا، الذي بدوره أدى إلى
تعطيل الحياة اليومية للفلسطينيين، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم والعمل.
المقاومة
الفلسطينية للاستيطان
خاض الفلسطينيون
مواجهات شبه يومية ضد المستوطنين وجيش الاحتلال، عبر التظاهرات والاحتجاجات
الشعبية في مناطق مثل بيتا ونعلين وكفر قدوم، كما تم اللجوء إلى المحاكم الدولية
لتوثيق جرائم الاستيطان والمطالبة بمحاسبة «إسرائيل»، ومع ذلك لم تتوان دولة
الاحتلال على السير قدماً وبتسارع مع الزمن لانتشار أوسع من ذي قبل.
الكفاح
المسلح
تعتبر فصائل
المقاومة الفلسطينية الاستيطان هدفًا عسكريًا، حيث شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا
في العمليات التي تستهدف المستوطنين وجنود الاحتلال، خاصة في شمال الضفة الغربية،
في مدن مثل نابلس وجنين وطولكم، لإدراكهم أن تعزيز صمود الفلسطينيين على أراضيهم
لن يكون إلا بالمقاومة المسلحة، وهو السبيل الوحيد كشكل من أشكال المقاومة للبقاء
في الأرض رغم كل التحديات، في حين تعمل المبادرات الفلسطينية الأخرى على تعزيز
الزراعة في الأراضي المهددة بالمصادرة، وإنشاء مشاريع اقتصادية تعزز الاستقلالية
الفلسطينية، مثل مقاطعة المنتجات «الإسرائيلية» ودعم المنتجات المحلية.
مستقبل
الاستيطان والمواجهة الفلسطينية
رغم ازدياد
الهجمات الاستيطانية، فإن المقاومة الفلسطينية بأشكالها المختلفة لا تزال مستمرة،
مما يعقّد محاولات الاحتلال لفرض سيطرته الكاملة، ومع تزايد الإدانات الدولية حتى
ولو أنها صورية يبقى السؤال المطروح: هل يمكن أن يتحرك المجتمع الدولي بجدية لوقف
هذه الجرائم، أم أن الصراع سيظل مستمرًا حتى يحسمه الواقع على الأرض؟
الاستيطان في
الضفة الغربية ليس مجرد توسع عمراني، بل أداة تهويد وتغيير ديمغرافي تهدف إلى فرض
واقع جديد يُنهي أي فرصة لقيام دولة فلسطينية أو التوصل الى حل الدولتين، وبينما
يواصل الاحتلال سياساته التوسعية، يبقى الفلسطينيون متمسكين بأرضهم، مدركين أن
صمودهم وكفاحهم المسلح هو الأقوى في هذه المعركة الطويلة.