بين الإسلام الحضاري والإسلام السياسي
![](https://mugtama.com/storage/uploads/hNuzlSIpgQUhyXdiny0lJ6Fc2MVET74UCfoi374m.jpg)
دخلت الأمة الإسلامية مرحلة: "التيه الحضاري" منذ أكثر من قرنين من الزمان، ويُطلق هذا المصطلح "على أزمة الخروج من التاريخ الحضاري، والعيش على الهامش.
وبتعريف آخر: التيه: حالة ضياع فكري وثقافي بين القيم، والانبهار والتأثر بقيَم الحداثة، وبدون أي دور يذكر على الصعيد الإنساني"(1).
دخلتها أثناء ضعف الخلافة الإسلامية واحتضارها، وكانت الدولة العثمانية في مرحلة أفول النجم؛ لذا سُميت بـ: الرجل المريض، ومنذ أن سقطت الراية لم تستطع أي دولة إسلامية، أو قومية إسلامية حمل اللواء، وإنشاء مظلة ينضوي تحتها المسلمون.
وأثناء تلك المرحلة الممتدة حدث تجديد في هذه الأمة -حسب موعود الله تعالى، لكنه لم يكن بأي -حال من الأحوال- تجديدًا في الحكم والخلافة والسياسة، وقد رأيت أن التجديد في مطلع العصر الحديث كان يقوم على الأفراد كـ: الأفغاني ومحمد عبده... إلخ.
ثم استكملته مدراس تبنت تلك الأفكار وطوَّرتها وتمثَّلت في الحركات والجماعات كـ: الإخوان المسلمين بمصر، والجماعة الإسلامية بباكستان، وجمعية العلماء المسلمين بالجزائر... إلخ.
وأرى أن التجديد القادم سيكون -بإذن الله- قائمًا على دول، والتي ستُفضي إلى عودة الخلافة من جديد مصداقًا لحديث النبي ﷺ: ".... ثم تكون ملكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة..."(2).
فالتجديد في نظري ببساطة يأخذ هذا التدرُّج: أفراد، حركات، دول.
وأحيانًا تم استخدام مصطلح "التجديد" ليكون عنوان الطعن في الثوابت والأصول ممن ينتسب للتنوير والعلمانية والحداثة، وقد تستشعر أحيانًا أن كثرة الدعوة للتجديد في كل شيء أورثنا فوضى عامة حتى وصلت للعادات والتقاليد؛ فما عاد هناك اتباع أو احترام للعادات والتقاليد المتوارثة. وقد كان غالب الحركات التي نشأت في أوائل القرن العشرين تحمل همَّ الأمة، وتحاول أن تعيد مجدها، وكان لها اهتمام خاص بالسياسة والعمل على إعادة الخلافة الإسلامية الملغاة.
وهي لم تتمكن من ذلك، وحوربت داخليًّا وخارجيًّا من أجل هذه الفكرة التي لم تتمكن يومًا من إقامتها، حتى أصبحت الدعوة لإقامتها تُهمة يعاقِب عليها القانون في بعض البلدان العربية المسلمة، لكنها كان لها الأثر الكبير في الحياة الثقافية والاجتماعية، أو ما يمكن إطلاق مصطلح "الإسلام الحضاري" عليه، والذي يمثِّل "القيم والمبادئ الإسلامية في التطور الثقافي والحضاري للمجتمعات"(3).
فالنهضة الفكرية والفقهية والأصولية أسهم فيها أبناء تلك الحركات والجماعات إسهامًا عظيمًا؛ فسيد قطب والغزالي والسيد سابق وأنور الجندي ومصطفى الزرقا وعبد الفتاح أبو غدة وعصام العطار ووهبة الزحيلي والقرضاوي وراشد الغنوشي وعلي طنطاوي وفتحي يكن والريسوني.... إلخ. أو ممن تأثر بتلك الحركات والجماعات وكان لهم علاقات معهم، مثل: محمد عمارة ومحمد سليم العوا وحسين حامد حسان ونادية مصطفى وهبة رءوف عزت وسيف عبد الفتاح والطيب برغوث.... إلخ.
فنجاح هؤلاء وأضرابهم في تجديد الإسلام الحضاري من حيث الثقافة والفكر لم يوازه نجاح في السياسة، وقد شاركت الحركات الإسلامية في الحياة السياسية منذ عقود طويلة خلت، ومارستها من خلال الأحزاب والنقابات والحركات الطلابية والبرلمانات والحكومات... إلخ.
لكن تلك المشاركة كانت بروح الدعاة والدراويش أكثر من روح الساسة والدهاة، وظلت تدور في إطار الحدود والخطوط الحمراء المرسومة لها ولا تتخطاها سواء أكانت في المعارضة أم الحكم.
وقد شاركوا في بعض الدول في الحكومات أو ترأسوها، لكنه في عهدهم حدثت خطايا سياسية كبرى تم فرضها عليهم، ولم يكن عندهم من القوة أن يجابهوها، مثلما حدث من توقيع حزب إسلامي على التطبيع بين دولته والكيان في إحدى الدول.
وقد تمكَّنت الآلة الإعلامية للأنظمة من تشويه الأحزاب الإسلامية التي شاركت مشاركة رمزية في الحكم على فترات قصيرة ومتباعدة، وحرَّضت الشعوب عليهم كأنهم هم الذين حكموا البلاد وكانوا السبب في الفساد والمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عاشتها تلك الشعوب.
وبعدما تصدَّرت بعض تلك الحركات الإسلامية للحياة السياسية بعد ثورات الربيع العربي، لم تكن تلك الحركات مؤهلة لقيادة الشعوب، أو أن تكون البديل الحقيقي للأنظمة المنهارة.
بل إن هذا التصدُّر كان وبالاً عليها وعلى الشعوب؛ حيث عملت تلك الأنظمة على الانتقام الشديد ممن حاول إزاحتها عن سدة الحكم.
لقد ناضلت تلك الأحزاب الإسلامية وما زالت، ونجحت في زمن المحنة، لكنها فشلت وانقسمت واختلفت في زمن المنحة.
وكبار منظريها في الفكر والسياسة عندما تصدَّروا الحكم في بلدانهم أظهروا ضعفًا شديدًا أغرى بهم غيرهم الذين أزاحوهم عن قصور الحكم إلى السجون مرة أخرى.
ولهذا الفشل المتكرر في الأزمنة والأماكن المختلفة حينما تصدروا المشهد السياسي أصبحتُ على شبه يقين أن تلك الجماعات والحركات الإسلامية قد أدت ما عليها من إيقاظ الأمة من جديد، لكنها ما عادت قادرة على مسايرة المرحلة الجديدة.
وذلك لأن بنيتها الفكرية غير مؤهلة للعمل السياسي؛ فالخلط بين الدعوي والسياسي أورثهم خللاً في العمل والممارسة.
وهذه المؤسسات الدعوية بان عندها الخلل في رؤية الحكم والإدارة؛ فمثلاً هي في رؤيتها الداخلية تخلط بين فكرة نظام الخلافة وديمومتها ورئاسة المؤسسات الدعوية؛ فلا تجد انتخابات تجديدية حقيقية دائمًا؛ حيث المسؤول يمكث عشرات السنين دون تغييرـ ولو أرادت مجموعة معتبرة من المنتسبين للدعوة تغيير هذا الوضع فلا يتمكنون من ذلك.
وتجد هؤلاء القادة يحيطون أنفسهم ببطانة أقرب ما توصف به بأنها جوقة تبحث عن مصالحها الشخصية، وإن أحسنا الظن بها فهي ذات رؤية ضيقة محدودة لا تقدِّر الواقع حق قدره، وغير مؤهلة فكريًّا وإداريًّا للنصح والتوجيه والإرشاد.
وهذه البطانة تُختار بعناية من أهل الثقة لا من أهل الكفاءة.
وهذه الاختيارات أثقلت كاهل المؤسسات الدعوية -وتنضوي تحتها الأحزاب الإسلامية- وأفقدتها إطارات فاعلة وكفاءات ذات ثقل، فأصبحت المؤسسات بذلك أشبه ما تكون بضيعة يتحكم فيها صاحبها وبعض المحيطين به.
لذا فإن تقديم الصورة المصغرة للحكم الرشيد منتف في تلك المؤسسات، وأصبحت تشبه إلى حد كبير الأنظمة الحاكمة التي تدعو للثورة عليها وتغييرها.
*************************
الهوامش:
(1) عيسى الغساني: التيه والرشاد، الرؤية، 09 ديسمبر 2024م، https://alroya.om/post/356790/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B4%D8%A7%D8%AF.
(2) جزء من حديث أخرجه أحمد في "حديث النعمان بن بشير"، ح(18406)، وقد حسَّن إسناده شعيب الأرنؤوط.
(3) حسين عبد البصير: الإسلام الحضاري، اليوم السابع، 24 مايو 2024م، https://www.youm7.com/story/2024/5/24/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D9%8A/6586470.