26 فبراير 2025

|

هات يمناك.. لنستكمل البناء

عثمان الثويني

26 فبراير 2025

868

 

حينما تهبُّ نسائم الأعياد الوطنية، وتزدان الشوارع بألوان العلم، وتصدح الأناشيد التي تحيي في القلب مشاعر الانتماء، نقف أمام مشهدٍ يُثير في النفوس الفخر، لكنه يُلقي على العقول تساؤلًا أعمق: هل يكفي أن نُحب الكويت بالكلمات، أم أن هذا الحب يجب أن يُترجم إلى بناءٍ، وعملٍ، وإبداع؟

 

الأوطان لا تُبنى بالشعارات، ولا تَنهض بالاحتفالات العابرة، بل تتجذر في أرواح أبنائها حين تصبح جزءًا من هويتهم، مُمثلةً في تفاصيل يومياتهم، في اجتهاد الطالب، وإخلاص العامل، وأمانة التاجر، وبذل العالم، وتفاني الجندي. فالوطنية الحقّة ليست لحظة انفعال، بل مسيرة حياة، تنبض في الأفعال قبل الأقوال، وتتجلى في البذل قبل الهتاف.

 

حين نستذكر ذكرى تحرير الكويت، لا نسترجع مجرد مشهدٍ من التاريخ، بل نعود إلى مدرسةٍ مليئةٍ بالدروس العظيمة، نستلهم منها كيف يُولد النصر من رحم المعاناة، وكيف يُصاغ المجد حين يتكاتف الشعب في لحظة الاختبار الكبرى. لم تكن تلك الحقبة مجرد معركةٍ لاستعادة الأرض، بل كانت درسًا خالدًا في الصمود والوحدة والإيمان بأن الكويت ليست مجرد رقعة جغرافية، بل روحٌ تسري في عروق أبنائها، ومسؤوليةٌ يحملها كل جيلٍ على أكتافه.

 

ما أعظمها من دروس حين نرى كيف احتشد الكويتيون داخل الوطن وخارجه، كيف قاوموا الاحتلال بقلوبٍ لا تعرف الانكسار، وكيف تحول كل فردٍ إلى جندي، كلٌّ في ميدانه، دفاعًا عن هويةٍ لا تُباع ولا تُشترى. واليوم، وبعد أن أصبحت الكويت حرةً، ماذا لو طبقنا ذات الدرس في معركة البناء؟ ماذا لو كان كل مواطنٍ جنديًا في ميدان عمله، مدركًا أن الوطنية ليست نشيدًا في الطابور الصباحي، بل هي إتقانٌ في الإنجاز، ونزاهةٌ في العطاء، وحرصٌ على رفع شأن الوطن بعلمه وعمله؟

 

التاريخ لا يُحفظ في الكتب فقط، بل يُعاد إنتاجه في الحاضر بوعي أبنائه. وإن كان أجدادنا وآباؤنا قد سطروا ملحمة الصمود، فإن على الجيل الجديد أن يكتب ملحمة النهضة، لا بالسلاح، بل بالفكر والمعرفة، لا بالشعارات، بل بالمشاريع والإنجازات. فالوطن لا ينتظر احتفاءً عابرًا في المناسبات، بل يحتاج إلى سواعد لا تكل، وعقول لا تتوقف عن الابتكار، وقلوبٍ لا تعرف التخاذل حين يكون وقت العطاء.

 

إن أعظم ما يمكن أن نُهديه للكويت في ذكرى استقلالها وتحريرها، هو أن نكون أبناءً يحملون مسؤوليتها بحق، أن نكون جيلًا لا يكتفي بأن يفخر بماضيه، بل يصنع مستقبله، أن نؤمن بأن رفعة الكويت تبدأ من مقاعد الدراسة، ومن ميادين العمل، ومن إيماننا بأن كل دقيقةٍ نبذلها في تطوير أنفسنا، هي خطوةٌ نحو مستقبلٍ أكثر إشراقًا لهذا الوطن.

 

وما أعظم أن تكون الأوطان مضاءةً بعقول أهلها قبل أن تُنير سماؤها الأضواء. فالكويت لم تكن يومًا مجرد أرضٍ تُسكن، بل كانت حلمًا في عيون من بناها، وأمانةً حملها من ضحى لأجلها، ووصيةً تنتظر أن تُترجمها الأجيال القادمة إلى إنجازٍ يليق بتضحيات الماضي. ومن هنا، فإن أجمل ما نقدمه لهذا الوطن في ذكراه هو أن نجعل الوطنية منهج حياة، لا مناسبةً تُطوى مع آخر يومٍ من الاحتفال.

 

إن الوطنية التي تحتاجها الكويت ليست تلك التي تكتفي بالتغني بأمجاد الماضي، بل التي تصنع مستقبلًا يُضاف إلى سجل الأمجاد. الوطنية هي أن تكون طالبًا يبحث عن التميز لا عن الدرجات، وأن تكون موظفًا يرى في عمله رسالةً لا مجرد وظيفة، وأن تكون مسؤولًا يحمل الوطن بين يديه أمانةً لا مغنمًا. فالوطن ليس مسؤولية الحكومة وحدها، بل هو صورةٌ تُرسم بمساهمة الجميع، بدءًا من أصغر يدٍ تُرتب مقعدها في الفصل الدراسي، وصولًا إلى أكبر عقلٍ يُخطط لنهضة البلاد.

 

حين نستلهم من ذكرى التحرير معاني الصمود والإصرار، فإن علينا أن نُسقطها على حاضرنا بوعيٍ جديد. الكويت التي استعادت استقلالها ذات يومٍ بقوة الإرادة، بحاجةٍ اليوم إلى ذات القوة في معارك أخرى؛ معركة العلم ضد الجهل، معركة الإبداع ضد الجمود، معركة النزاهة ضد الفساد، معركة الإنتاج ضد الاتكال. فالوطن لا يُحفظ بالشعارات، بل يُصان بالجهد، ولا يزدهر بالتمنيات، بل بالتخطيط والعمل الدؤوب.

 

إننا في زمنٍ لم يعد التحدي فيه هو الحفاظ على الأرض وحدها، بل صون الهوية، وتعزيز الكفاءة، وضمان أن تكون الكويت رائدةً في عالمٍ لا يعترف إلا بالأقوياء. ومن أجل ذلك، لا بد أن ندرك أن العمل من أجل الوطن ليس تفضّلًا، بل واجبًا، وأن رفعة الكويت ليست مسؤولية فئةٍ دون أخرى، بل مسؤولية كل من يحمل في قلبه حب هذا البلد.

 

ولئن كانت ذاكرة التحرير تُذكرنا بمن ضحوا ليبقى الوطن حرًا، فإن علينا أن نتساءل: هل نملك ذات الإخلاص لبنائه كما أخلصوا لاستعادته؟ هل نضع الكويت في قلب قراراتنا، كما وضعوها في صميم تضحياتهم؟ هل ندرك أن كل إنجازٍ صغيرٍ يُضاف إلى رصيد الوطن هو امتدادٌ لتلك المسيرة العظيمة؟

 

إن أصدق احتفالٍ بالكويت لا يكون في يومٍ واحد، بل في كل يومٍ يُبذل فيه جهدٌ من أجلها، في كل فكرةٍ تُنير طريقها، في كل يدٍ تمتد لتضيف لبنةً في بنائها. فالوطن ليس ذكرى نُحييها، بل مستقبلٌ نصنعه، وحين نفهم ذلك، ستُصبح كل لحظةٍ من حياتنا احتفالًا حقيقيًا بالكويت، لا بالأضواء، بل بالإنجازات التي تليق باسمها.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة