20 فبراير 2025

|

هَدي النبي ﷺ مع القرآن الكريم في شهر رمضان

د. أحمد عيسى

17 فبراير 2025

5821

مع إشراقات رمضان ونفحاته وأفراح الروح فيه التي توقظ المشاعر وتستنهض النفوس، تتجدد الصلة بالله عز وجل، وتحيا القلوب في رحاب كلام الله؛ القرآن الكريم، فكيف كان هَدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن في هذا الشهر المبارك حتى نقتدي به؟

تكفل الله بحفظ القرآن الكريم من أي تحريف، أو تبديل، أو زيادة، أو نقص، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وهو آخر الكتب السماوية؛ لا يُنسخ ولا يُبدل، ولقد حفظ الله القرآن الكريم على الأرض ابتداء بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حفظه أتم حفظ، وبلغه أحسن تبليغ، وعلّمه للصحابة، فحفظته صدورهم.

النبي كان يُحيي الليل بقراءة القرآن في الصلاة عبادة وتلاوة وتدبراً حتى تفطرت قدماه الشريفتان

روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة»(1)، كانت هذه المدارسة والمقابلة في القراءة عن ظهر قلب في رمضان من كل عام؛ من الأسباب القوية لحفظ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وتثبيته في قلبه، وخص بذلك رمضان من بين الشهور؛ لأن ابتداء الوحي كان فيه؛ ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره في رمضان.

ومن أسباب حفظ القرآن على الأرض حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظه ومدارسته في كل أوقاته، فكان يحيي الليل بقراءة آياته في الصلاة؛ عبادة، وتلاوة، وتدبراً لمعانيه، حتى تفطرت قدماه الشريفتان، مع تكفل الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بحفظه وجمعه في صدره حتى لا يضيع منه شيء، وكان القرآن شغل النبي صلى الله عليه وسلم الشاغل في صلاته، وتهجده، وفي سره وعلانيته، وفي حضره وسفره، وفي وحدته وبين صحابته، ولا يغيب عن قلبه، والتأدب بآدابه، وتبليغه إلى الناس كافة، كما كان أعلم الناس به، وفي الحديث دخلنا على عائشةَ فقلنا: يا أمَّ المؤمنين، ما كان خُلُقُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم؟ قالت: «كان خُلُقُه القرآنُ»(2).

لم يكتف النبي بحفظ القرآن وإقرائه لأصحابه وحثهم على تعلمه بل أمر بكتابته وتقييده في السطور

تعليم القرآن للصحابة

إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول الحُفَّاظ، ولصحابته فيه الأسوة الحسنة؛ شغفاً بأصل الدين ومصدر الرسالة، وقد نزل القرآن في بضع وعشرين سنة، وكلما نزلت آية حُفِظت في الصدور، ووعتها القلوب، والأمة العربية كانت بسجيتها قوية الذاكرة، تستعيض عن كتابة أخبارها بسجل صدورها(3).

قام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الصحابة القرآن بنفسه، وأمره الله عز وجل بأن يقرأه على الناس على مُكث، كما قال تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) (الإسراء: 106)؛ أي: على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه، ويستخرجوا علومه، وأخرج البخاري عن عبدالله بن مسعود أنه قال: «والله لقد أَخذتُ من في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة»(4)، وأخرج عن جابر بن عبدالله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا الاستخارة في الأمور كلها كما يُعَلِّمُنا السورة من القرآن»(5). 

وقد كُتب القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بمرأى وبأمر منه؛ حيث كان للوحي كتبة من خيرة الصحابة يكتبون كل ما نزل من القرآن، ثم جُمع في عهد أبي بكر بين دفتي المصحف، وفي عهد عثمان على حرف واحد، فلم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن، وإقرائه لأصحابه، وحثهم على تعلمه وتعليمه، بل جمع إلى ذلك الأمر بكتابته وتقييده في السطور، فكلما نزلت آيات دعا الكتّاب فأملاها عليهم ليكتبوها. 

القرآن كان محل عناية الصحابة يتنافسون في مدارسته ويتفاضلون فيما بينهم بمقدار ما يحفظون منه

«وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتَّاباً للوحي من أجلّاء الصحابة كعليّ، ومعاوية، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، تنزل الآية فيأمرهم بكتابتها، ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، حتى تُظاهِر الكتابة في السطور، الجمع في الصدور»(6)، «وبلغ كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وأربعين كاتباً كان بعضهم منقطعاً لكتابة الوحي»(7).

والعرضة الأخيرة هي مدارسة القرآن التي تمت بين النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته وجبريل عليهما الصلاة والسلام في شهر رمضان من السنة العاشرة للهجرة، وكانت العرضة مرتين؛ في كل مرة ختمتان؛ ختمة عرض وختمة سماع، فكان جبريل عليه السلام يقرأ والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع حيناً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وجبريل يسمع، وجمع عثمان رضي الله عنه المصحف الإمام على هذه العرضة الأخيرة.

 

وقد شرح «القضاة» في بحثه، كيف كانت هذه العرضة مراجعة نهائية لجميع ما نزل من القرآن، وبالأحرف السبعة، وحضور العرضة معناه أنه بعد انصراف جبريل، يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيقرأ على من حضر من الصحابة، ويقرأ في الصلاة الجهرية وفي قيام الليل، فيسمعه الصحابة، ويدارسهم فيه ليطمئن على صحة أخذهم للقرآن بصورته الأخيرة، فيكون كل من ائتم بالنبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في السنة العاشرة وما بعدها حتى وفاته، قد حضر شيئاً من العرضة الأخيرة، وهم عدد كبير من الصحابة، الذين كانوا يواظبون على الحضور معه صلى الله عليه وسلم في مجالسه، وفي صلاة الفريضة وصلاة الليل بمسجده وما أكثرهم(8)!

علينا العناية بالقرآن في رمضان إيماناً وتحاكماً وتخلّقاً وعملاً وتلاوة وتدبراً وسماعاً وحفظاً

ماذا عنّا؟

كان القرآن محل عناية الصحابة، يتنافسون في استظهاره وحفظه، ومدارسته وتفهمه، ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه، يهجرون لذة النوم وراحة الليل إيثاراً للقيام به وتلاوته في الأسحار، حتى لقد كان الذي يمر ببيوتهم في غسق الدجى يسمع فيها دوياً كدوي النحل بالقرآن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكي فيهم روح هذه العناية بالتنزيل، ويبلغهم ما أنزل إليه من ربه، ويبعث إلى من كان بعيد الدار منهم من يعلمهم ويقرئهم(9).

ها هو رمضان شهر القرآن فرصة لنا للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأفاضل في العناية بالقرآن؛ إيماناً وتصديقاً وتحاكماً وتخلّقاً وعملاً وتلاوة وتدبراً وسماعاً وحفظاً وتعلماً وتعليماً.

 

 

 

 

____________________

(1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي (6).

(2) رواه البخاري، الأدب المفرد (308)، قال الألباني: صحيح لغيره.

(3) القطان، مباحث في علوم القرآن، ص 120. 

(4) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن (5000).

(5) رواه البخاري، كتاب التهجد بالليل (1162).

(6) القطان، مرجع سابق، ص 123.

(7) الحمد، رسم المصحف: دراسة لغوية تاريخية، ص 69.

(8) القضاة، العرضة السنوية الأخيرة للقرآن الكريم، علوم الشريعة والقانون، 45 (4)، ملحق 2، 2018، ص 3-11.

(9) الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ص241.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة