وإذا خاصَمَ فَجَر

د. محمد السبأ

09 نوفمبر 2025

38

جاء من حديث عبدالله بن عمرو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: قال: «أَربَعٌ مَن كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَن كَانَت فِيهِ خَصلَةٌ مِنهُنَّ كَانَت فِيهِ خَصلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا ائتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَر»(1).

قال الجُرْجانيُّ: الفُجورُ: هو هيئةٌ حاصلةٌ للنَّفسِ بها يباشِرُ أمورًا على خلافِ الشَّرعِ والمروءةِ(2)، وقال ابن حجَر: هو اسمٌ جامعٌ للشَّرّ(3).

الفرْق بين الاختلاف والخصومة الفاجرة

من طبيعة الحياة وطبيعة الناس الاختلاف والتنوُّع، وفي كل المجالات، ولا يمكن أن تجد نسختين متطابقتين بين اثنين أبداً، حتى في الأسرة الواحدة، فتبايُن الآراء والأذواق بطريقة طبيعية وسلميَّة شيء مقبول، ولكن قد يؤدِّي هذا الاختلاف بطبيعته أيضاً إلى خِلافٍ أحياناً، وهذا كلُّه في الأُطر البشرية والطبيعية ما دام في حدود الاختلاف الطبيعي.

ولكن ما ليس طبيعياً هو تطوُّر الخلاف ووصوله إلى مراحل خطيرة تكون الخصومة السائدة والغالبة، ويصحبه العدوان والإيذاء والضرر، وهذا ما يُسمى «الفجور» في الخصومة، الذي تختلف أيضاً مستوياته حسب الأشخاص، إذْ يصِل بعضهم إلى مستوى من الشرِّ والإيذاء والعدوان لا حدَّ له، ولذلك أمرَ الله في كتابه بالبُعد عن الإثم والعدوان وحذَّر من التعاون فيهما؛ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وقد ورد لفظ «الإثم» في القرآن في 48 موضعاً، وأكثر ما جاء عليه بمعنى الحرام، ولذلك قوبِل بـ«البِر»، والعدوان هو سوء الاعتداء في قول أو فعل أو حال(4).

من علامات الفجور في الخصومة

لكل خُلُقٍ أو فعلٍ علاماته التي تدل على تخلُّق صاحبه به، ومن علامات الفاجر في خصومته:

1- الكذب وتزييف الحقائق: وهي من أخطر الصفات؛ لأن صاحبها يغيِّر بكذبه كل شيء، ولخطورته قال الله فيه: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل: 105)، وحينما تتعمد الكذب فقط لإسقاط خصمك؛ فهذا دليل على الفجور الذي وصلت إليه؛ إذ استحللت أول الطريق إلى آخره وصولاً للعدوان على الآخَر.

2-  تجاوز حدود العدل والإنصاف: من التوفيق وتقوى الله أن تعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، أمَّا إذا تجاوزت ذلك الحق بنقْصٍ أو غمْطٍ بسبب الخصومة؛ فإنك بذلك تتصف بالفجور، وقد قال الله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ‌اعْدِلُوا ‌هُوَ ‌أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).

3- استحضار الأخطاء القديمة والنبْش في النيات: المؤمن يبحث للآخرين عن كل معنى حسن، ويفرح بوجود الخير، ويستُر ما وسعه الستْر، وإذا وجدَ حبل ودٍّ وصَلَه مهما كان ضعيفاً، بينما غيره قد يصل به الحد في الخصومة إلى أن يستحضر خطأً مرَّتْ عليه سنوات، ويسوِّغ لنفسه تفسير القصْد والنيَّة؛ وصولاً إلى أخْذ حق خصْمه أو التعدي عليه أو إيذائه، ولو أنه استوعب القاعدة النبوية الكريمة: «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى»(5) لكان خيراً له وللآخرين.

4- التعميم والاتهام الشخصي بدلاً من مناقشة الفعل: المؤمن العاقل يبحث عن الحق أينما كان، ولا يُشخصِن الأمور، أو يجعل من الذواتِ أخطاءً، بل يناقش الأفعال والسلوك، فإذا ما وجد الشخص المخطئ قد عدَّل سلوكه فالأمر قد انتهى، أمَّا أن يتهم الشخص ذاته ويخاصمه ويصل به الأمر إلى تعميم سلوكه الخاطئ على كل حياته وربما على الآخرين؛ فهذا فجورٌ في الخصومة، وقد قال الله تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر: 18).

5- التحريض والشماتة والتشهير في العلَن: وهذه صفات سيئة نهى الله عنها، وتُعد من الإيذاء والتجاوز، وقد قال الله (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (الأحزاب: 58)، وقال ابن القيم فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن عيَّرَ أخاه بذنبٍ لم يمُتْ حتى يعملَه»(6)، قال الإمام أحمد فيه: أي مِنْ ذَنْب قد تاب منه، وأيضاً في التعْيير ضرْب خفيٌّ من الشمَاتة بالمُعيَّر(7).

آثار اجتماعية وأخلاقية للفجور

يُعد الفجور من الصفات ذات الآثار السيئة المؤثِّرة على الأفراد والأُسَر والنسيج الاجتماعي والمنظومة القيَمية؛ ومن تلك الآثار:

1- تمزيق العلاقات الأسرية والاجتماعية: كلُّ خِصامٍ بطبيعة الحال يباعد بين القلوب، فكيف إذا وصلَ الحد إلى الفجور؟ عند هذه النقطة تتمزَّق الروابط الأُسَرية والاجتماعية، فتغلِب الشحناء والبغضاء والخداع والمكر والطلاق والعقوق.. إلخ، فهذه كلها مُنتجات ولا بد للفجور في الخصومة.

2- فقدان الثقة بين الناس وتآكل القيم: هذا الأثر الخطير إذا دخَل قلْب فردٍ أهلَكَه، وإذا دخَل أسرةٍ دمَّرها، وإذا دخل مجتمعاً مزَّقه، لأنه يجعل كل شخصٍ يبحث عن حظِّ نفسه بأي ثمن، ومن هنا يتعدَّى على حقوق الآخرين أيَّاً كانت، ولذلك كان من أبرز الآثار السلبية للفجور في الخصام.

3- نشر الحقد والكراهية وتعطيل روح التعاون: هذا الأثر السلْبي الناتج عن الفجور؛ يزرع الفتن والانقسامات بين أفراد المجتمع، ويسبِّب النزاعات والصراعات، ويشجِع على العنف والانتقام، وبالتالي لا مصالح مُشتركة ولا قيَم مرعيَّة ولا أمن أو استقرار داخلياً أو خارجياً.

4- انهيار صورة القدوة في البيوت والمؤسسات: هذه نتيجة خاتِمة لتلك الآثار الناتجة عن الفجور؛ فإذا كان الفرد قد فقَدَ كثيراً من القيَم النبيلة، ودارَ حول نفسه إلى درجة التعدِّي على الآخرين بأي صورة؛ فَمن يمكن أن يتخذه قدوةً ومثالاً ولا مؤهِّل له إلا كل خُلُقٍ سيئ؟

العلاج والوقاية

إن بناء شخصية مُتَّزنة تستمد قيَمها ومبادئها وموجِّهاتها من الدين الحنيف؛ هي العلاج والوقاية المُثلى لترْك خُلُق الفجور وكل ما يؤدي إليه، وفي سبيل ذلك نذكِّر بالتالي تحديداً:

1- تربية النفس على العدل والرفق حتى مع الخصوم: متَّخِذاً التوجيه الرباني دليلاً ومحفِّزاً؛ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (النحل 90).

2- استحضار مراقبة الله: فكلما أمرتْه نفسه بأذيَّة الآخرين أو التعدي عليهم انتصاراً لها؛ تذكَّر أن الله عليه أقْدر، متذكِّراً هذا الموقف الرهيب: عن ابن مسعود قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِن خَلْفِي صَوْتًا: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه»، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: «أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ»(8)، وأنت حين تضرب غيرك بلسانك أو بيدك أو بمكرك؛ فهل تأمن أن تلفحك النار؟

3- التدريب على الإنصاف في الحوار والاعتراف بالخطأ: هذه منزلة رفيعة يوفِّق الله إليها مَن سعى بجد وإخلاص لنيْلها، وهي جزء من تقوى الله ومراقبته لدى المؤمن، شعاره ومنهجه قول ربه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).




__________________

(1) رواه البخاري، ومسلم.

(2) التعريفات.

(3) فتح الباري.

(4) التوقيف على مهمات التعاريف.

(5) رواه البخاري.

(6) ميزان الاعتدال.

(7) مدارج السالكين.

(8) رواه مسلم.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة