إظهار الحب وأثره.. سحر البيان النبوي في تعزيز الروابط النفسية والاجتماعية
الحب في الله
يساعد على تحقيق الألفة والمودة بين المسلمين حيث يجمع شتات كل متفرِّق من القلوب
في الدنيا، ويبعد عنهم أمراض النفوس الباطنة كالحقد والغل، وبالحب في الله تأسس
مجتمع المدينة الذي قام على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد كافأ الله
المتحابين فيه بأن يُظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأن يجعلهم مع من أحبوا.
وقد حرَصَ
رسولنا الكريم صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على بِناءِ المُجتمعِ الإسلامي على
الأُلفةِ والمودَّةِ ونبْذِ التَّباغُضِ ويتحقق ذلك من خلال نشْرِ المحبة والإخبار
بها، جاء ذلك في الحديث الذي رواه الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُعْلِمْهُ
أَنَّهُ يُحِبُّهُ» (رواه البخاري (1/ 113)، وأحمد في مسنده (28/ 408)، وصححه
الألباني).
التحليل اللغوي لرواية الحديث
بدأ الحديث
الشريف بأداة الشرط «إذا»، التي تدل على تحقق الوقوع، والارتباط بين فعل الشرط
وجوابه، وجاء فعل الشرط «أَحَبَّ» ماضياً ليدل على ثبات المحبة ودوامها في القلب،
بينما جاء جواب الشرط «فليعلمه» مضارعاً؛ ليدل على التجدد والاستمرار في إظهار هذه
المحبة.
وجاء أسلوب
الأمر باستخدام اللام في قوله: «فليعلمه»، وهذا أسلوب إنشائي طلبي يدل على الوجوب،
ولكنه ليس أمرًا بالمعنى الحرفي الذي يستلزم الإلزام، بل خرج إلى الاستحباب ويعد
هذا توجيهًا نبويًا حكيمًا لتعزيز المودة وتأليف القلوب.
التأكيد بـ«أنَّ»:
وبعد أن أكد الجواب باللام كرر التأكيد بـ«أنَّ» لبيان أن المحبة حقيقة راسخة في
النفس وليست ادعاءً أو تظاهرًا، مما يبعث الاطمئنان في نفس الأخ.
وجاء الفعل «أحب»
مكرراً في الشرط بلفظ الماضي وفي الجواب بلفظ المضارع ليقوي معنى المحبة ويؤكدها.
الأوجه البلاغية لإخبار المسلم لأخيه بمحبته
يحمل هذا الهدي
النبوي في طياته دلالات بلاغية عميقة، تُظهر حكمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
في بناء مجتمع متحاب مترابط، وتتضح هذه الدلالات من خلال:
1- إظهار
التناسق والتناغم بين الفعل الماضي والمضارع (الشرط والجواب)، وهذا يوضح أن الحب
شعور ثابت في النفس، لكنه يحتاج إلى فعل متجدد ومستمر يتمثل في إظهاره للآخرين،
حتى يظل حيًا وفعالًا ويمتد أثره.
2- اختيار
المفردات والألفاظ بعناية فائقة؛ فاختيار مفردة «أخاه» بدلًا من «صاحبه» أو
«رفيقه» له دلالة بلاغية عميقة؛ لأن الأخوة في الإسلام لها مكانة خاصة، فهي رابطة
أقوى من الصداقة، حيث يكون الحب فيها مجرداً عن المصالح الشخصية، أو المنفعة
الخاصة بل يكون لله وفي الله.
ويؤكد هذا ما
جاء في حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ،
وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا
مَنْ هُمْ، قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ
أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ
وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ
النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ» (رواه أبو داود في سننه (3/ 288)،
صححه الألباني).
وفي لفظ «أحدكم»
نكتة بلاغية مهمة حيث جاء بلفظ المذكر؛ فظاهر الحديث: لا يتناول النساء، وهذا غير
صحيح؛ لأن الخطاب إنما يخص الرجال للتغليب، لكنه يشمل الإناث أيضاً، وهذا أمر
معروف فإذا أحبَّت المرأة أختها لله يستحب إخبارها بذلك.
3- استخدام
أسلوب التكرار لتأكيد المعنى وتوضيحه حيث تكرر لفظ «الحب» في الحديث مرتين (أحبَّ،
يحبه)؛ وهو ما يؤكد أهمية المحبة والتركيز عليها وضرورة إعلانها، فهي المحور
الأساسي الذي يقوم عليه الحديث.
4- توضيح الأثر
النفسي والاجتماعي المترتب على هذا التوجيه النبوي ففي رواية أخرى للحديث تكملة،
وهي: «فإنه أبقى للأُلفة وأثبت للمودة»: فإظهار مشاعر المحبة الصادقة يساهم في نشر
الألفة، ويعمل على إزالة الضغينة والحقد، وله تأثير آخر على الاستماع والنصح،
فعندما يعرف الشخص أن شخصًا آخر يحبه، يصبح أكثر استعدادًا لسماع نصيحته وقبولها؛
فالأمر يختلف تماماً عندما يصدر من محب وهذا يجعل المجتمع متآلفًا ومترابطًا،
ويحافظ عليه من التفرُّق والتفكُّك (فيض القدير 1/ 247).
5- لم يكتفِ النبي
صلى الله عليه وسلم بهذا الهدي النبوي اللفظي، بل قدم أمثلة عملية على ذلك، كما
حدث مع معاذ بن جبل عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ، والله إني
لأحبك»، هذا التطبيق العملي يؤكد أن توجيهاته ليست نظرية مجردة، وإنما سلوك وتطبيق
واقعي يجب على المسلم اتباعه في حياته اليومية.
وختاماً، يتجلّى
سحر البيان النبوي في هذا التوجيه الموجز العظيم، حيث لم يكن هذا الحديث النبوي
مجرد نصيحة عابرة، بل كان منهجاً متكاملاً لبناء مجتمع متماسك؛ فمن خلال دقة
اختيار الألفاظ، وتناغم الأفعال بين الثبوت والتجديد، خرج الأمر النبوي الكريم
ليكون هندسة للقلوب، يزيل ما علق بها من حواجز، ويُفعّل الحب الكامن ليصبح قوة
دافعة للتآلف.
اقرأ
أيضاً:
- الغيث النافع.. كيف صوَّر النبي ﷺ حال القلوب في استقبال الهدى؟
- الرابط الإيماني والاجتماعي بين شكر الله وشكر الناس
- الغثائية والوهن.. التشخيص النبوي لاستضعاف الأمة واستباحتها