الصيام.. ومعركة الهاتف!

يعد الهاتف الجوال تحدياً جسيماً وخطيراً، يفرض نفسه على المسلم والمسلمة، خاصة في شهر الصوم والقيام والقرآن، بما يهدد الثمار المرجوة إيمانياً وأخلاقياً من شهر رمضان الكريم.

الأمر جد خطير، مع تعاظم الاعتماد على وسائل الاتصال، وتطور الأمر ليصبح فتنة وشهوة، وربما معركة، تواجه المرء، إما أن ينتصر فيها، أو أن يصبح أسيراً لآلة صغيرة، تقف تماماً عن العمل إذا انتهى شحنها الكهربائي.

أن تقود أنت الآلة، أي آلة، أياً كان حجمها، وإمكاناتها التقنية، فهذا انتصار للنفس في ميادين جديدة، ومستحدثة، فُرضت علينا، وقد سلبت منا إرادتنا وهمتنا وعزيمتنا عن بُعد.

إن من المؤسف في عالمنا المعاصر أن نرى جهازاً صغيراً يسيطر على عقل وقلب الإنسان؛ يشاركه حياته ومأكله ومشربه، يرافقه عند نومه، وربما يلازمه في الصلاة، وفي خلواته مع الله تعالى، فتسمع الرنات والنغمات تقطع خشوع المصلين، وتخدش حياء الساجدين.

تعد الهواتف المحمولة أكبر عامل إلهاء، بالنسبة للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 26 و40 عاماً، على سبيل المثال، يشكو نحو ثلث الألمان من تشتت انتباههم خلال الدراسة بسبب هواتفهم المحمولة، بحسب استطلاع للرأي أجرته حديثاً الجامعة الألمانية للعلوم التطبيقي.

اقرأ أيضاً: الهاتف آداب ومنكرات

تقول عالمة الاجتماع أولريكه ليشتينغر: إن الكثير من الناس معتادون الآن على القيام بمهام متعددة، وهذا يعني أن تركيزهم يتقطع باستمرار، بينما يصبح الأمر أكثر تطرفاً عند جيل الشباب مع تطبيقات التواصل ومواقع الفيديو.

غزو هاتفي

يقول البعض: إن استخدام الهاتف بات ضرورة، ولم يعد ترفاً، ولا يمكن الاستغناء عنه، أو الحد من استخداماته في الدراسة والعمل والسفر وشتى مناحي الحياة، وهو أمر صحيح وصائب في كثير من جوانبه، إذا أحسنا استخدامه وتوظيفه، لا أن يغزو حياتنا، ويحتل عقولنا.

من المتوقع أن يصل عدد مستخدمي الهواتف الذكية حول العالم إلى 7.1 مليارات مستخدم بنهاية العام 2024م، وأن يبلغ عدد أجهزة الهواتف المحمولة عالمياً 18.22 مليار جهاز في عام 2025م؛ ما يعني أن هناك أكثر من جهاز لكل فرد في بعض الدول، وفق شبكة «ستاتيستا» (Statista)، المتخصصة في التحليلات البيانية.

لغة الأرقام تؤكد تنامي وتغول نفوذ الهاتف الجوال، ليتحول من آلة صغيرة إلى حالة مرضية، تضاهي حالات الإدمان للمواد المخدرة والكحول وغيره، الأمر الذي أظهرته دراسة علمية، أجريت في العام 2022م، وأفادت بأن البالغين في الولايات المتحدة الأمريكية يفحصون هواتفهم في المتوسط 344 مرة يومياً، بواقع مرة كل 4 دقائق.

تتعاظم خطورة الهاتف عند مطالعة نتائج استطلاع أجري عام 2021م، أظهر أن نصف المستخدمين يمضون من 5 - 6 ساعات يومياً على هواتفهم المحمولة، وأن 71% من مستخدمي الهواتف ينامون بالفعل مع أجهزتهم، وفق «الجزيرة».

كسل وإرادة

إن الكثير من الأسر تشكو من استغراق ابنها أو ابنتها بصحبة الجوال، وربما التغاضي عن واجباته المدرسية، والتخلي عن علاقاته الاجتماعية، ونسيان من في البيت وأهله، إذا اختلى بهاتفه، وربما استمرت الحال أياماً وشهوراً، إلى أن يستيقظ الجميع على كارثة صحية أو نفسية أو غير أخلاقية.

ومن المؤسف أن الخطر يلازم المرء صغيراً كان أو كبيراً في رمضان، وغيره، فتجد الواحد منا مشغولاً بالمكالمات والرسائل ومقاطع الفيديو والألعاب الإلكترونية، وغيرها من تطبيقات متطورة، جعلت من هذا الهاتف سلاحاً ذا حدين، وقد يكون ضاراً في كثير من الأحيان، وربما مميتاً في أحيان أخرى.

تؤكد دراسة علمية نُشرت في مجلة «جمعية بحوث المستهلك» أن الاستخدام المفرط للهواتف المحمولة يتسبب في حالة من الكسل العقلي، وأن القدرة المعرفية للبشر تنخفض بشكل كبير عندما يكون الهاتف الذكي في متناول اليد.

اقرأ أيضاً: دراسة أمريكية: ضوء شاشات الهواتف الذكية ليلاً يؤثر على جودة النوم

مكمن الخطر هنا، أن الهاتف يقوم بمهام عدة نيابة عن العقل، فمثلاً أنت لم تعد في حاجة لتذكر رقم معين؛ لأن ذاكرة الهاتف ستقوم بهذا الدور، كذلك لن تبذل جهداً في معرفة طريق ما، أو معلومة معينة؛ لأن هاتفك سيوفرها لك، وسيعفيك من البحث والتفكير والدراسة، وسيغنيك عن وظائف التركيز والتذكر والإدراك، وبالتالي سيضعف من قدراتك الذهنية والعقلية.

لست بصدد التحذير فقط من الاستخدام المفرط للهواتف الذكية، التي تؤثر على المهارات الذهنية والحركية والاجتماعية لأبنائنا، وتحرمهم من التطور الذاتي والتفاعل المباشر مع أقرانهم، بل أطلق صيحة تحذير من هذا الغزو الذي زحف إلى مساجدنا وشعائرنا، ونال من قدسية عباداتنا، وخشوع صلواتنا، وروحانية صيامنا، ونفحات الشهر الفضيل.


ليكن لكل منا وقفة مع النفس، محطة إدراك للخطر، لحظة استعادة للإرادة، أجندة لترتيب الأولويات، خطة وقائية تحول دون إدمان الهاتف، وتجعل منه وسيلة لا غاية، وجزءاً من الحياة، لا حياتنا كلها.

تحرروا من أسر الهاتف، يرحمكم الله.




الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة