رمضان.. وتحديات الزمان

هل مرّ على أمتنا طوال تاريخها عامٌ كان أشدّ عليها من هذا العام؟ بالطبع: أجل؛ فما أكثر النكبات التي حلّت بالأمة في تاريخها كلّه ولا سيما التاريخ المعاصر! ولو أنّنا جاوزنا نكبة عام 1948 ثم نكسة عام 1967م لم نجد أعنف من تلك العاصفة الهوجاء التي اجتاحت الأمة إبّان الارتداد عن الثورات والانقلاب عليها منذ منتصف عام 2013م، تلك العاصفة التي خلّفت حروباً أهلية في كثير من حواضر الأمة الإسلامية، واستبداداً غشوماً في سائرها، واستدامة وتسريعاً لمسار التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، ومزيداً من الانسحاق تحت الهيمنة الغربية، فهل ثَمَّ ما يمكن أن يختص به رمضان هذا العام من أحداث جسام يستقبلها أو يودعها أو يعايشها حتى يظفر بخصوصية تجعله ذا طابع أكثر أهمية؟

على الرغم من انتشار الأزمات واستمرار الأوضاع المتردِّية؛ فإنّ المرجح أنّ رمضان هذا العام يشهد لوناً آخر من المستجدات؛ سببها تلك البشائر المحمولة على أجنحة المحاذير، أو ذلك التقاطع والتدافع الواقع بين أقواس البشارة وأجراس النذارة، وهذا النوع من المستجدات هو الذي يولد ما يسمى بالتحديات، التي لا تنتمي بكلِّيَّتها إلى الروافع والفرص ولا إلى العقبات والمعوقات، فالتحدي قد يكون عقبة يراد تجاوزها وقد يكون فرصة سانحة نخشى فواتها، فما التحديات الكبرى التي ولّدتها الأحداث الأخيرة؟ ما التحديات التي تواجهنا اليوم التي حلّ رمضان هذا العام وهي قائمة جاثمة؟


العلماء والجهاد.. «طوفان الأقصى» نموذجاً |  مجلة المجتمع الكويتية
العلماء والجهاد.. «طوفان الأقصى» نموذجاً | مجلة المجتمع الكويتية
تعيش الأمة الإسلامية اليوم محطة من أخطر محطات تار...
mugtama.com
×


لا ريب أنّ «طوفان الأقصى» أحدثت حالة جديدة في مسار الصراع العربي «الإسرائيلي»، فبغضّ النظر عن نتائجها ومآلاتها العاجلة، تعَدُّ نقلة بعيدة في هذا المسار؛ ليس فقط لما أوقعته من نكاية في العدو الصهيونيّ جعلته يكدح في سبيل أن يواري عورته، ولا لما أحدثته من انقلاب في الرأي العام العالميّ تجاه القضية الفلسطينية وتجاه المشروع الصهيونيّ الغاشم، وإنّما لما أحيته في الأمة من أمل كبير في تصفية المشروع الصهيونيّ الذي كان بالأمس القريب على وشك تصفية القضية الفلسطينية.

هنا يبرز التحدي الأول والأكبر؛ لأنّ ما جرى أيقظ الفريقين معاً، فبقدر ما بعث الحدث من الأمل في الأمة الإسلامية بعث في المقابل الترقب والاستنفار لدى الكيان الصهيونيّ الذي استشعر تهديداً وجودياً حقيقياً؛ ما يحتم أنّ الصدام سيكون أوسع وأوقع، فإذا كان العدوان بالأمس محصوراً في غزة، فإنّه قد بدأ يتوسع في أنحاء فلسطين؛ وهذا بالقطع سيستدعي انتشار المقاومة على خطوط أكثر امتداداً وسعة؛ ما يستوجب من الأمة حالة من الاستنفار على كافّة الأصعدة، فلقد اشتدت وآذنت بالانفجار، والأمة الإسلامية برغم ما يُغَشِّيها مآس عميقة، فإن فرص الوثوب فيها متعددة ومتنوعة، لذلك ينبغي في رمضان إعداد النفوس وتهيئة القلوب وتحضير النيّات الحسنة الوثّابة.

على صعيد آخر، وجدنا عبوراً للثورة السورية وتجاوزاً لكثير من العقبات جملة واحدة؛ أفضى إلى نصر وفتح وإسقاط للنظام الذي ظلّ جاثماً على صدر الشعب السوريّ ستين عاماً، ذاق خلالها السوريون الويلات، لكنّ هذا الذي تحقّق استفزّ كثيراً من قوى الشرّ محلّياً وإقليمياً ودولياً، وصارت الحالة السورية كموجة عالية عاتية تحتها تيارات جبارة تمضي بقوة وعنف في عكس اتجاهها، فهل سيتحقق لهذه الحالة استقرار وثبات؟ أم ستجتاحها رياح الفتن الهوجاء؟

فهذا من أكبر التحديات المعاصرة التي تمخضت عنها أحداث هذا العام، وهو تحدٍّ كبير وخطير؛ لأنّ الحالة السورية لها ما بعدها لدى الطامحين في استنهاض الأمة وتحرير الشعوب، وهذا يستدعي استثمار الشهر الكريم في شحذ الهمم وصقل العزائم وتصحيح النوايا، مع انصراف الهمّ إلى قضايا الأمة وترك الأنانية المفضية إلى سلبية عامّة.


مفاتيح النهوض بتجارب الإسلاميين في الحكم |  مجلة المجتمع الكويتية
مفاتيح النهوض بتجارب الإسلاميين في الحكم | مجلة المجتمع الكويتية
منذ أن بدأت الحركات الإسلامية تشق طريقها نحو سدة...
mugtama.com
×



وهناك على أرض السودان الرحيب وضعٌ مريب، يمثل تحدِّياً هائلاً للأمة كلها إن كان لديها وعيٌ إستراتيجيّ، ففي رمضان الماضي كانت عواصف اليأس تجتاح القارة السودانية الخصيبة التي كانت تُعَدُّ لدى أصحاب الرؤى الإستراتيجية سلة غذاء العالم العربيّ في قابل الأيام، أمّا اليوم فقد حلّ رمضان والجيش السودانيّ -بدعم من الشعب- يربح كل يوم معركة على حساب المتمردين؛ ما يولد تحدِّياً حقيقياً، يتمثل في ضرورة الإنجاز قبل أن تتمخض الأيام القادمة عن مفاجآت غير متوقعة.

فهل القيادة السودانية جادة في إنهاء هذا الصراع، أم إنّ الأكمة تخفي وراءها ما لا يتوقعه البسطاء ولا يخفى على الواعين الأذكياء؟ وهل سينجح الشعب السودانيّ بمكوناته الإسلامية في حمل الجيش على الإنجاز مع ضمان سلامة الأوضاع بعد نهاية التمرد من إرهاب احترازي تمارسه الدولة؟

ووراء المحيط العربي والإسلامي تزداد حالة التربّص بالأمة مع مجيء إدارة ترمب، تلك التي تحتشد فيها أقطاب الصهيونية، وصناديد الرأسمالية النيوليبرالية، وتخطط لإنهاء الصراع بين الأوكران والروس بغرض التفرغ للعالم الإسلامي الذي يشكل التهديد الأكبر للمشروع اليميني الصاعد؛ ولذلك يأتي -بالتزامن مع السعي لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية وإحلال السلام في أوكرانيا- سعي حثيث لتصفية القضية الفلسطينية، وتحريض صريح وسافر ضد «حماس» والمقاومة، ودعوة فجة قبيحة لتهجير أهل غزة، وهذا يستدعي بالضرورة استنفارَ الأمة وإيقاظ روح المقاومة فيها، ولا ريب أنّ رمضان فرصة عظيمة لخطاب يلهب المشاعر ويوقظ الضمائر ويحرك الهمم، المهم هو كيف ننطلق من كتاب الله تعالى لبناء عقلية ونفسية جديدة.

فما أكثر التحديات التي تواجه الأمة مع حلول رمضان! لكنْ في المقابل، ما أعظم الطاقات الدافعة التي يمكن أن تتولد في هذا الشهر العظيم مع تلاوة الذكر الحكيم والتعبد بالقرآن الكريم! فلننطلق بدعوتنا وخطابنا المتزن الرصين، ولنستبشر بقرب تحقق ما وعد الله تعالى به في قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).

ولنكن على يقين من ديننا وكتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولنعتصم بالأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية؛ عملًا بقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران: 103).


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة