العفة.. الخيار الصعب في عصر العولمة

في ظل الانفتاح الإعلامي المعاصر وما يصاحبه من تدفق للمعلومات والصور والأفكار بلا أدنى قيود، يواجه المجتمع الإسلامي تحديًا كبيرًا في الحفاظ على قيمه الأخلاقية وتمسكه بالآداب الشرعية، لا سيما فيما يتعلق بالعفة؛ لذا وجب إعادة التذكير بأهمية العفاف وأثره على الفرد والمجتمع ووسائل غرسه في النفوس.
وتتجلى أهمية العفة في مظاهر عدة، منها:
1- الاستقامة وعدم الزيغ:
إن الإسلام وما فيه من أخلاق يتوجه بكامله إلى تهذيب النفس والابتعاد عن كل ما يؤدي للانحراف، يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) (النساء: 27).
وهذا الهدي العام فارق بين من عاش على مراد الله عز وجل، وغيره ممن سلك سبيل الشيطان فأراد اتباع الشهوات والميل بذلك عن الحق.
2- الحفاظ على ذيوعه في الأسرة والمجتمع:
العفة ركيزة أساسية في بناء الأسرة المسلمة المستقرة والمتماسكة، فإنه يحافظ على إبقاء الروابط الزوجية قوية، فعن جابر بن عبدالله أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً، فأتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهي تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلى أَصْحَابِهِ، فَقالَ: «إنَّ المَرْأَةَ تُقْبِلُ في صُورَةِ شيطَانٍ، وَتُدْبِرُ في صُورَةِ شيطَانٍ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ؛ فإنَّ ذلكَ يَرُدُّ ما في نَفْسِهِ»(1).
ففي الحديث توجيه لمواضع الطهر، ونفي الخَبَث، وإذاعة ذلك الهدي في المجتمع؛ حتى يتجنب الانزلاق في الفساد الأخلاقي والانحراف السلوكي.
3- وسيلة تقوى الله تعالى:
طريق العفاف معبِّد لتحصيل المقصد الأسمى؛ وهو تقوى الله عز وجل، روت السُّنة قصة أصحاب الغار حينما سد صخرة عظيمة عليهم فنجوا بعفة أحدهم عن الحرام، فعن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ..»(2).
4- دخول الجنة:
ومثل ما سبق؛ فإن العفة سبب دخول الجنة، فواحد من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله هو المتعفف عن الحرام في ظل وجود دواعيه، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إلى نَفْسِهَا، قالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ»(3).
ويظهر الآن شبه ذلك بعصرنا الحالي الذي أذيعت فيه دواعي الحرام بلا رقيب أو حسيب.
وأهمية العفاف وآثاره على المجتمع لا يعد كثرةً، ولكن المهم إبراز أهم الآثار ليهيئ النفوس لطلبه، وبذل الجهد لغرسه في نفس الإنسان ومن حوله.
وسائل ترسيخ العفة في النفوس
ومع توسع وسائل الإعلام وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، بات من السهل التعرض لمحتوى يخالف القيم الإسلامية، ويضرب أسس العفاف والحياء في النفوس، ويعد الانجراف وراء هذه المضامين دون إدراك لأخطارها من أهم أمراض هذا العصر على الإطلاق.
لذلك، يتطلب الأمر تعزيز التربية على هذا الخلق في مستوى الفرد والمجتمع، وذلك من خلال:
- الوعي الأسري: فالأسرة هي أساس التربية والتزكية، لذا يجب على المربين التركيز على معاني العفاف والامتثال للأوامر الشرعية، وليحرص الآباء على أن يكونوا قدوة في التزامهم بهذه الوسائل ليراها الأبناء متمثلة حية أمامهم، فكم من انحرافات سلوكية في مجتمعاتنا بات سببها واضحًا للجميع وهو إهمال الآباء العفاف في أنفسهم فضلًا عن أن يُصدروها لأبنائهم.
- الإيمان ومراقبة الله تعالى: من أشد ما يُعين الفرد على العفاف استشعار مراقبة الله له، وأن يخشى أن يراه في موضع معصيته، وإيمانه بصفات الله وكماله وأنه لا يخفى عليه شيء، يقول تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19).
- الرقابة المجتمعية: وهي المتمثلة في بقاء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي سر خيرية المجتمع الإسلامي، يقول عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (ال عمران: 110)، ومنها الرقابة الإعلامية على ما يروج للانحرافات السلوكية أو الأفكار المصادمة لأخلاقيات الإسلام وآدابه، وتنظيم الدورات التوعوية للشباب بمخاطر الانحلال الأخلاقي.
- العناية بالمدارس والتعليم: خصوصًا في تعليمها النشء قيمة الوقت واستغلاله فيما يفيد، والحرص على الاشتغال بمعالي الأمور وترك سفاسفها، ومراقبة الذات بتهذيب النزعة المادية الاستهلاكية الشائعة، وعدم الانسياق خلف الرائج.
- المساجد والدروس الدينية: للمساجد والدروس الدينية دور كبير في توجيه الشباب لأهمية العفاف والالتزام بالآداب الشرعية، من خلال الخطب والدروس التي تذكر بالمعاني المنسية بسبب الانشغال بالحياة اليومية، كأهمية تهذيب النفس والابتعاد عن المغريات.
- تعزيز الوعي الشخصي: وذلك بالقراءة في سير الصالحين، خاصة القصص التي تظهر نماذج السلف الصالح في التعامل مع المغريات وتمسكهم بقيمة العفة، والبعد عن مواطن الفتن.
إن العفة سلاح عظيم ضد الفتن، وحماية للمجتمع من الفساد والانحراف؛ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71)، فما أحوج الأمة في وقتها الحالي لنزول رحمات الله عز وجل، فها هو الطريق.
___________________
(1) رواه مسلم (1403).
(2) رواه البخاري (2272).
(3) رواه البخاري (660).