القِبلة سبيل إلى الوحدة

أرأيت الولد البار، حين يسير قاصدا إلى بيت أبيه، فإذا مر في طريقه على بيت إخوته فإنه يأبى إلا أن يُعرِّج عليهم ليقيم بينهم فترة مَّا، تطييبًا لخاطرهم، ثم يكون مستقرُّهُ في البيت المشترك، الذي يحمل الأسرة كلها. فذلك هو التطور الذي حدث في تشريع القِبلة.
فبيت المقدس هو بيت الإخوة، والكعبة هي بيت الأسرة، وهي منزل الجد الأعلى.
وإذا كان من مفاخر الإسلام أنه جمع بين القبلتين؛ فإنه لم يكن همه ذات القبلة في الأولى ولا في الثانية، وإنما كان همه أول الأمر وآخره، هذا الانضمام والالتئام بين أسرة المؤمنين، وفي وحدة القصد والتوجه إلى المعبود الأعلى، تحت لواء النبيين والمرسلين. قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وقال عز وجل: (قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (البقرة: 142)(1).
سر الاهتمام بتعيين القبلة وتوحيدها
لقد كان للقبلة التي وحدت صفوف المسلمين، وربطت بين مشاعرهم قصة، وأية قصة، فقد ظل بيت المقدس قبلتهم فترة من الزمن، ثم تحولت إلى الكعبة، وهي البيت الحرام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
فلماذا هذا الاهتمام البالغ بتعيين القبلة وتوحيدها؟
وما سر هذا التطور في تشريعها؟ لماذا لم يكن نظام الصلوات كنظام الدعوات المنثورة التي لا يشترط في صحتها ولا في قبولها أن يتخذ الداعي وضعا خاصا من الأوضاع، ولا أن يلتزم أسلوبا معينا من الأقوال والأفعال، ولا أن يتجه إلى جهة معينه من الجهات، ولماذا كانت الجهة هذا البيت أو ذاك؟ ولماذا جعلت عامة للأمة كلها أفرادا وجماعات؟
أليست الصلاة صلة بين العبد وربه؟ أليست كل وظيفتها تحقيق هذه العبودية للرب، سبحانه وتعالى، والتماس المعونة منه؟
أليس الله يسمع لمن حمده على أي وضع كان، يستجيب لمن يدعوه حيثما توجه؛ (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) (البقرة: 115)، هذه أسئلة تجول بالخواطر، ولكنها لا تلبث بعد قليل من التأمل أن يتجلى وجه الحكمة فيها.
أَجَل.. إن قليلاً من التأمل يهدينا إلى أن الله جلت حكمته حين شرع الصلاة على هذا الوجه الموحد في أسلوبه وصورته، وحين نصب لنا فيها إماما نبيا نقتدي به أو بمن ينوب عنه، وحين أقام لنا بيتا نتوجه فيه إليه بوجوهنا، ونحج إليه بقلوبنا أو بأبداننا، أراد بذلك أن تكون الصلاة عبادة جامعة بين علامتي الإيمان: المحبة لله، والمحبة في الله.. أراد ألا تكون الصلة صلة واحدة، بل مجموعة من الصلات، صلة بين العبد وربه، وصلة بينه وبين أئمته من المرسلين أو ممن يحمل رسالتهم، وصلة بينه وبين إخوانه المؤمنين.
لقد كبُر هذا التحويل للقبلة على كثير من الناس وحسبوه لهوا وعبثا، أو حيرة وترددا، وما هو بعبث ولا بتردد، وإنما هو التصميم الأول نفسه، يسير صاعدا نحو الهدف الأخير(2).
استقبال القبلة عنوان التجمع نحو الإسلام
شاع بين فقهاء المسلمين مصطلح: أهل القبلة.. ومصدره في السنة النبوية، حيث روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللهَ فِي ذِمَّتِهِ».
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَهْلَ قِبْلَتِنَا، مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي، مَا لَمْ يُكَذِّبْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(3).
فاستقبال القبلة هو عنوان الانتساب للإسلام، والانتماء للأمة الإسلامية، حتى وإن ارتكب المستقبِل لها المعاصي، أو اتخذ رأيا مخالفا لغيره من الناس، ما لم يكن فيه خروج عن الإسلام نفسه.. وفي هذا تحفيز للناس مهما تنوعت أفكارهم أو اختلفت مذاهبهم، أن يجتمعوا تحت مظلة واحدة، وهي قبلة الإسلام.
ويبقى اختلافهم مندرجا تحت القاعدة العامة: التنوع في إطار الوحدة.
كيف يعزز توحيد القِبلة وحدة الأمة؟
إن توحيد القبلة ليس مجرد توجيه للجسد في الصلاة، بل هو رمزٌ لوحدة الأمة في عقيدتها ورسالتها.
وكما اجتمع المسلمون على قبلة واحدة، فإن عليهم أن يجتمعوا على مبادئ الإسلام لتحقيق قوتهم ونهضتهم.
وتسهم القبلة في توحيد الأمة من خلال المعالم الآتية:
1- تجسيد الوحدة الروحية والفكرية:
فتوحيد القبلة يجعل المسلمين يشعرون أنهم كيان واحد يتجه نحو هدف واحد، بغض النظر عن اختلافاتهم اللغوية أو الثقافية.
2- تعزيز الانتماء الجماعي:
حيث إن وقوف المسلمين جميعًا باتجاه القبلة في الصلاة يعزز الإحساس بالانتماء للأمة الإسلامية، مما يقوي روابط الأخوة والمودة بينهم.
3- إلغاء الفوارق:
فلا فرق بين فقير وغني وعربي وعجمي، الجميع يقفون في صفٍ واحد متجهين نحو القبلة، مما يرسّخ مبدأ المساواة في الإسلام.
4- تركيز القلوب على التوحيد:
فالقبلة ليست مجرد اتجاه، بل رمز لتوحيد العقيدة وتركيز المسلمين على عبادة الله الواحد الأحد.
واجبات عملية نحو وحدة الأمة الإسلامية
1- ضرورة الوحدة في الواقع العملي، كما يجتمع المسلمون حول قبلة واحدة، يجب أن يجتمعوا على القيم والمبادئ الإسلامية لتقوية وحدتهم.
2- نبذ الخلافات والانقسامات؛ كما جمعت القبلة المسلمين في الصلاة، فعلى الأمة اليوم أن تترفع عن الفرقة والخلافات التي تمزق صفوفها.
3- تعزيز روح الأخوة والتعاون؛ فكما تتوحد القلوب في الصلاة نحو الكعبة، ينبغي أن تتوحد الجهود في خدمة الإسلام وقضايا المسلمين.
4- الالتزام بالهوية الإسلامية؛ فكما كان تحويل القبلة تعزيزًا للهوية الإسلامية، فإن الحفاظ على هوية الأمة اليوم ضرورة لمواجهة التحديات الفكرية والثقافية.
_______________________
(1) نظرات في الإسلام: د محمد عبدالله دراز، ص 46.
(2) المرجع السابق، ص 45.
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ص 313.