تجليات البلاغة النبوية في حماية حقوق اليتيم والمرأة
الضعفاء هم أكثر
الناس عرضة للظلم والقهر؛ وذلك لعدم قدرتهم على أخذ حقوقهم أو الدفاع عن أنفسهم؛
لذلك حثنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على مساعدة الضعفاء والرفق بهم، وذلك
لما لهم من فضل وأنهم من أسباب انتصار المسلمين، كما جاء ذلك في قوله صلى الله
عليه وسلم: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ» (صحيح
البخاري، 4/ 98)؛ فجعل الضعفاء سببًا لنصر الله ورزقه ببركة دعائهم؛ لأن قلوبهم
خالية من التعلق بزخرف الدنيا، فيغلب عليهم الإخلاص في العبادة؛ وهو ما يجعل
دعاءهم أكثر خشوعًا وقبولًا.
لم يقتصر الهدي
النبوي في المحافظة على حقوق الضعفاء والعناية بهم على أسلوب الترغيب فقط، بل
استخدم أسلوب الترهيب والتحذير في الحديث الذي رواه أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ:
الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ»، وقد ورد الحديث برواية أخرى وهي: «اتَّقُوا اللَّهَ
فِي الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ والْمَرْأَةِ» (رواه أحمد في مسنده (15/ 416)،
وابن ماجة في سننه (4/ 641)).
التحليل اللغوي لروايتَي الحديث
بدأت الرواية
الأولى للحديث بأسلوب النداء الذي يستخدم للتنبيه بقوله: «اللهم»: الله: منادى
مبني على الضم في محل نصب، وأصله «يا ألله»، و«الميم»: عوض عن أداة النداء
المحذوفة «يا» تأكيد الجملة الاسمية بـ«إن»، واستخدم الفعل المضارع «أُحَرِّجُ»
الذي يدل على التجدد والاستمرار، وللعلماء في معنى «أحرج» في هذا الحديث مذهبان؛
الأول: «أجعل في حرج»؛ أي إثم من يضيع حقهما (الضعيفين)، فجعل رسولنا الكريم صلى
الله عليه وسلم من يظلمهما آثماً ومستحقاً للعقوبة من الله، وفيه إلزام للناس بعدم
ظلمهما، والثاني: بمعنى «أُضيّق»؛ وهو الضيق والذنب والعقوبة لمن تعرض لحقوقهما،
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يحذر تحذيراً شديداً من ظلمهما أو التقصير في
حقوقهما.
أما الرواية
الثانية: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ والْمَرْأَةِ» فنجدها
بدأت بفعل الأمر «اتقوا» الذي يقتضي وجوب التنفيذ ويدل على أن حسن معاملة الضعيفين
ليست مجرد توصية اجتماعية، بل هي فريضة دينية تقتضي العقاب لمن يفرط في حقهما.
ويتضح جمال
التعبير في استخدام أسلوب التفصيل والتوضيح بعد الإجمال في جملة «الضعيفين: اليتيم
والمرأة» مجملاً ثم تفصيله لهذين الضعيفين بـ«اليتيم والمرأة»، وهذا ما يسميه
النحويون بدل البعض من كل على الرأي الراجح؛ لأن كلاً من اليتيم أو المرأة جزء من
الضعيفين.
وأجاز فريق من
النحاة اعتبار «اليتيم والمرأة» بدلاً مطابقاً (كل من كل) على اعتبار أن الضعيفين
هما اليتيم والمرأة بالتحديد.
من تجليات البلاغة النبوية
تتجلّى البلاغة
النبوية في هذا الهدي الشريف في أكثر من صورة على النحو التالي:
أولاً: الجمع
بين الإيجاز والتركيز والشمول، مستخدماً الألفاظ المؤثرة لاستنهاض الهمم وإلزام
المسلمين بواجباتهم الدينية والأخلاقية تجاه الفئات المستضعفة، وهذا من جوامع
الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: براعة
الاستهلال بأسلوب الدعاء والالتجاء إلى الله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يطلب من
الله التضييق على من يضيّع أو يمنع حق هذين الضعيفين، وهذا التعبير يوحي بشدة
التحذير والزجر عن ظُلمهما أو إضاعة حقوق فئتين في أمسّ الحاجة للرعاية والحماية
في المجتمع.
ثالثاً: استخدام
الاستعارة المكنية في لفظ «أُحَرِّجُ»؛ حيث يُصوّر من ينتهك حقوق الضعيفين كأنه
يدخل في مكان ضيق وحرج (الإثم والعقوبة)، لا يجد منه مخرجاً، وهو ما يجعله تحت
التهديد الإلهي المباشر.
رابعاً: مجيء
التفصيل بعد الإجمال لترسيخ المعنى في ذهن السامع في لفظ «الضعيفين» وما فيه من
إيجاز بديع يعقبه تفصيل بقوله: «اليتيم والمرأة».
وهنا تجدر
الإشارة إلى نكتة بلاغية عميقة: لماذا خص «اليتيم والمرأة» بالذكر مع أن الظلم
محرم شرعاً لكل الناس؟
خصّهما الله
بالذكر لزيادة ضعفهما، وهذا لا يعني نفي الحكم عن غيرهما من الضعفاء، واستخدام
صيغة المثنى: للفت الانتباه لهاتين الفئتين بالذات؛ وهو ما يدل على شدة الحاجة
للعناية بهما وأنهما الأكثر عرضة للظلم أو الإهمال؛ فاليتيم ضعفه ناتج عن فقدان
المعيل فهو بحاجة ماسة للرعاية والحماية والعدل في معاملته وحفظ ماله.
والمرأة، ضعفها
قد يكون بدنياً أو بسبب الأعراف الاجتماعية التي قد تقيد حركتها أو تجعلها تتعرض
للظلم في المجتمع.
خامساً: استحث
عاطفة المخاطبين باستخدام لفظ «الضعيفين»؛ الذي يوضح سبب التوصية والعناية بهما،
لكونهما «ضعيفين»؛ أي ليس لهما من يدافع عنهما أو يحميهما بقوة، خاصة بعد أن فقد
اليتيم والده، والمرأة قد تكون في حاجة لمن يعينها، وهو افتقارهما غالباً للقوة
الذاتية التي تمكنهما من الدفاع عن حقوقهما، وهذا يؤكد أن هاتين الفئتين هما الأحق
بالرعاية والعناية؛ لفقدهما السند؛ وهو ما يثير الشفقة والرحمة في النفوس ويدعو
إلى كفالة حقوقهما.
وأخيراً، تنوع
الأسلوب النبوي بين الترغيب والترهيب في مراعاة حقوق الضعفاء والعناية بهم؛ وهو ما
يدل على عمق البصيرة النبوية في حماية حقوق الإنسان، خاصة الضعفاء الذين لا يجدون
من يدافع عنهم إلا الله.
اقرأ
أيضاً:
- من التوبة إلى اليقين.. المنظومة الإيمانية والبلاغية لـ"سيد
الاستغفار"
- إظهار الحب وأثره.. سحر البيان النبوي في تعزيز الروابط النفسية
والاجتماعية
- الغيث النافع.. كيف صوَّر النبي ﷺ حال القلوب في استقبال الهدى؟