«العربية» في مدارسنا.. غياب مقلق واحتياج حتمي

لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من شأن وقيمة ودور المنشأة التربوية، أياً كانت صفتها؛ حضانة، مدرسة، معهداً، كلية، جامعة.. أو غير ذلك من الصور الحديثة مثل المنصات التعليمية، في النهوض باللغة العربية، وتعزيز حصونها ضد اللغات الأجنبية، واللهجات الشعبية، وغيرها؛ ما جدّ من ألفاظ ومصطلحات وكلمات غريبة وشاذة عن القاموس العربي.
ومن نافلة القول: إن المدرسة الوعاء الأول للغة العربية، والمحضن الرئيس لتشريب النشء والصغار هوية أمة، باتت للأسف تكافح من أجل الحفاظ على لغتها، بل وتشعر بالخجل حينما تتحدث بها، وقد تسخر منها، أو هكذا يراد لها، بفعل فاعل؛ للخروج من عباءة لغة عظيمة وعريقة وراسخة، هي لسان القرآن الكريم.
أذكر كيف كانت مدارسنا منذ عقود، وهي تصدح في إذاعاتها الصباحية بكلمات وأناشيد وفقرات ومسابقات باللغة العربية الفصحى، وهو ما يتمدد من حصة إلى أخرى، ومن معلم إلى آخر، تارة في حصة الأدب والشعر، وتارة في حصة التعبير، وتارة في حصة التربية الإسلامية، حتى حصص العلوم والرياضيات، كانت لا تخلو من استخدامات للفصحى، سواء من المعلم أو المتعلم.
الحال ذاته، في الندوات المدرسية، والأنشطة التعليمية، والمسابقات الدورية، مثل تزيين الفصل الدراسي بلوحات تحمل أبيات شعر ومقولات من الحكم والتراث، أو معرض الصحافة المدرسية، أو مسابقة الطالب المثالي، وغيره، كانت اللغة العربية سيدة الموقف، ولها النصيب الأكبر من الحضور اليومي على أرض الواقع.
هذا الحضور المكثف والفاعل، كان يتيح عدداً من المهارات اللغوية للتلميذ، أولها: مهارة الاستماع، حيث يتعلم النشء اللغة العربية بطريقة سليمة، وقد كان العرب قديماً يحرصون على تربية أبنائهم في البوادي بعيداً عن الحاضرة، حتى لا تختلط ألسنتهم بالأعاجم.
ثانياً: مهارة الكلام أو التحدث للتواصل مع الآخرين، والنطق السليم للكلمة، مع حسن الصياغة للتعبير عن أفكاره.
ثالثاً: مهارة القراءة التي تنمي الثروة اللفظية لدى الإنسان.
رابعا: مهارة الكتابة للتعبير عن الذات كأهم وظائف اللغة، ليحصد التلميذ جميع المهارات اللغوية من استماع وكلام وقراءة وكتابة.
وفق نتائج دراسة أردنية متخصصة بعنوان «المدرسة ودورها في اكتساب المهارات اللغوية»، فإنه من الضروري تخصيص وقت من الحصة التعليمية للاستماع، وأن يتضمن التقويم الشهري تقييماً مناسباً للقراءة، وأن يشارك التلميذ من الصغر في كتابة الكلمات والموضوعات المتنوعة، وأن تلبي المنظومة التعليمية مهارة المحادثة والتواصل، وهي أدوار تكمل بعضها بعضاً، ولا يمكن التخلي عن إحداها.
التعلم التعاوني
تؤكد نتائج دراسة غربية أجريت على عينة من تلاميذ المدارس في هولندا أهمية أن يقوم المعلم بتشجيع الحديث الشفوي بين التلاميذ، مع حثهم على تقبل آراء بعضهم، وكتابة تعليقاتهم الشخصية، وإتاحة الفرصة أمام التلاميذ في مرحلة التعليم الأساسي لممارسة مهارة التعبير الشفوي والكتابي، بما يساعدهم على التصرف ككتاب صغار، ضمن ما يعرف بإستراتيجية التعلم التعاوني.
يقول الأكاديمي الجزائري د. دلوم محمد: إن كل شيء في حياة الطفل مدرسة للغة العربية؛ فالأم مدرسة، والشارع مدرسة، والمدينة مدرسة، والمدرسة بشكلها الكبير مدرسة وليست منحصرة في درس اللغة العربية، فبمجرد أن يفتح باب المدرسة يجب أن يكون كل ما يقدَّم للطفل باللغة العربية، ابتداء من الإدارة ووصولاً إلى حاجب المدرسة.
لكن الحديث باللغة العربية في المدارس والجامعات، في عديد البلدان العربية والإسلامية، يسجل غياباً واسعاً ومقلقاً، ومن المصارحة الاعتراف بأنه حضور خجول، قد لا يجد صدى على أرض الواقع، بل إن معلم اللغة العربية نفسه لا يتحدث بها من الأساس، وقد يتعرض للسخرية والتنمر حال أصر على ذلك!
الواقع المؤسف يستلزم بشكل عاجل، اتخاذ إجراءات عملية وخطط وبرامج من قبل الوزارات المعنية والجهات المسؤولة، تقضي بالتزام معلمي اللغة العربية بالتحدث بها كمرحلة أولى، ورفع الدرجات الممنوحة لمادة العربية، ومنحها الأفضلية مقارنة بباقي المواد الدراسية، على أن يؤازر ذلك أنشطة تعليمية تعلي من شأن لغتنا، ومسابقات تخصص لها جوائز قيمة تحفز الطلاب على ضبط لسانهم، وتنقيه من الشوائب الأجنبية، وتوقف رواج الازدواجية اللغوية في أوساط الصغار والمراهقين من الجنسين، على أن يصاحب ذلك إنتاج أعمال فنية وسينمائية ترسخ قيمة الفصحى لدى الشعوب الناطقة بها.
ومن خلال الممارسة العملية والتربوية في بيئة تعليمية عربية، يمكن تعزيز دور المدرسة في اكتساب الطلبة للمهارات اللغوية، من خلال العمل على إتقان الطلاب لقواعد النحو والصرف والإملاء، والحرص على إتقان قواعد الخط العربي، وتوفير أدوات ووسائل تساعد في تطبيق المهارات اللغوية في المدرسة، وتنظيم مسابقات وأنشطة ثقافية تستهدف رفع كفاءة الطلاب في المهارات اللغوية، وإعطاء الطالب الفرصة للكلام والسؤال والتحاور وإلقاء الشعر وكتابة القصة، وتسجيل الطلاب لأفكارهم وملاحظاتهم وتلخيص ما يقرؤونه كتابياً بعد كل درس لغوي، وإعادة الاعتبار إلى حصص الإملاء والتعبير والأدب، بل واعتبار التحدث بالفصحى علامة تفوق وتميز بين الطلاب.
إذا كنا جادين في إنقاذ لغتنا والنهوض بها، فلنتحدث بها.