ترميم النسيج الاجتماعي في غزة بعد الحرب.. التحديات ‏والفرص

خلّفت الحرب الوحشية التي سرعان ما تحولت إلى إبادة جماعية على قطاع غزة آثاراً خطيرة أثرت بشكل مباشر على النسيج الاجتماعي للسكان، حيث هدمت البنية التحتية في القطاع بنسبة تجاوزت 80%، ونزح أكثر من مليون مواطن عن بيوتهم بسبب القوة القاهرة التي تعمدت استهداف المدنيين كوسيلة للضغط على المقاومة الفلسطينية، ومحاولة لتنفيذ مخطط التهجير الذي يسعى إليه الكيان منذ أمد بعيد.

هذا الاستهداف غير المسبوق للمدنيين استخدم فيه الكيان سلاح التهجير وسلاح التجويع، بل والاستهداف المباشر لأماكن النزوح التي زعم الاحتلال أنها أماكن آمنة، واستهدف البنية التحتية الأساسية من مشافٍ ومراكز صحية ومحطات المياه ومساجد، بل لم تسلم المقابر من العدوان حيث جرفت العديد من المقابر لينتهك الاحتلال حرمة الأموات بعد أن انتهك حرمة الأحياء، وكل هذه الجرائم تصنف على أنها جرائم حرب تستحق المحاكمة والمواجهة.

تحديات اجتماعية عميقة خلفتها حرب غزة

لقد كان لهذه الممارسات الإجرامية الأثر المباشر لإصابة النسيج الاجتماعي إصابات بالغة، حيث فقدت العوائل الملاذ الآمن؛ ما ساهم في تفكك كثير من الأسر نتيجة النزوح المتكرر والقصف العشوائي، فلا تكاد تجد أسرة غزية إلا أصابها شيء من التفكك نتيجة فقدان عدد من أفرادها، وقد يكون المفقود هو الشخص المعيل القائم على احتياجاتها المادية؛ ما أثر على قدرة الأسر على توفير احتياجاتها الأساسية التي صارت تباع بأسعار باهظة نتيجة الإغلاق الكلي للمعابر؛ ما سبب فجوة كبيرة بين التجار خاصة الذين استغلوا ظرف الحرب والحصار، والسكان الذين فقدوا مصادر الدخل؛ ما اضطر الأسر إلى خروج أطفالها الصغار بحثاً عن لقمة العيش في ظل بطالة واسعة.

فتجد طفلاً يذهب لطوابير التكايا، وآخر لطوابير المياه، وثالثاً لجمع ما تيسر من الحطب، وتكاثرت مناشدات بعض الأسر في الفضاء الإلكتروني للمسارعة في إغاثتهم، وهم أهل المروءة والكرم والشرف، ولا يخفى ما لهذا من آثار نفسية هائلة تؤثر بشكل مباشر في الروابط المجتمعية.

ولقد استشهد لي مؤخراً ابن عم بقصف أحد الأبراج في مدينة غزة، وكان مما صبّر أهله وربط على قلب زوجه أمران؛ الأول: أنه مات من فوره فلم يضطروا لأخذه لأحد المشافي للعلاج، وما أدراك ما حال مستشفيات غزة؛ تكدس للمصابين والمرضى، ونقص حاد في أساسيات العلاج ومنها المخدر والمضادات الحيوية الفعالة وغيرها، مع نقص حاد في كميات الدم اللازمة لإجراء العمليات الجراحية، والثاني: أنهم وجدوا له قبراً بيسر وسرعة عجيبة، فحمدوا الله تعالى على نعمه وآلائه، ونظرا لانشغال الأسر الغزية بضرورات البقاء ما عاد لهم وقت للحزن والتنفيس عما في داخلهم من غضب وألم.

ما سبق يمكننا أن نجمل أبرز التحديات الاجتماعية فيما يلي:

  • تفكك الأسر.
  • فقدان مصادر الدخل.
  • انهيار الخدمات الأساسية من صحة وتعليم.
  • تدمير هائل للبنية التحتية من مياه وصرف صحي.

فرص إعادة بناء النسيج الاجتماعي في غزة

لترميم النسيج الاجتماعي بعد توقف الحرب لا بد من العمل الفوري من مختلف الجهات الداعمة ومن مؤسسات المجتمع المدني في غزة وخارجها، والشخصيات الغزية المؤثرة في المجتمع على توفير ما يأتي:

أولاً: الدعم النفسي والاجتماعي:

لا بد من إطلاق حملات وبرامج دعم للأسر بشكل عام وبشكل خاص للحالات الصعبة، خاصة قطاع الأرامل والأطفال وكبار السن لمساعدتهم على تجاوز آثار الصدمة، وفي هذا الصدد لا بد للمؤسسات الدولية ذات الصلة المبادرة بإطلاق هذه الحملات، ولا يخفى دور الدعاة والعلماء والأئمة في هذا المجال، فلهم دور بارز في تنمية الجانب الإيماني الذي يشكل حجر الأساس في إنعاش لحمة النسيج الاجتماعي.

ثانياً: إعادة تأهيل المدارس والنوادي الثقافية والرياضية:

إن هذه المؤسسات التعليمية والترفيهية والثقافية تشكل ملاذاً مهماً لإعادة تأهيل الأفراد، وتؤدي دوراً محورياً في إعادة الروابط المجتمعية وتعزيز الشعور بالانتماء خاصة مع ارتفاع نسبة الشعور بالأمان وتوفير المياه والطعام والبدء بإعادة الإعمار.

ثالثاً: تعزيز الحوار المجتمعي:

لقد سببت الصعوبات والتهديدات الخطيرة الناتجة بسبب الحرب العدوانية فجوة بين طبقة التجار وعموم الناس، خاصة الذين فقدوا مصادر دخلهم، بالإضافة إلى ما سببه انتشار العملاء وضعاف النفوس وانتشار السرقة وقطع الطريق والفلتان الأمني -خاصة في الفترة الأخيرة من الحرب- من فجوة مجتمعية بين عموم الناس وهؤلاء المجرمين الذين ينتمون إلى عائلات معروفة، وقد قامت بعض العائلات، كعائلة الأسطل مثلاً، بالتبرؤ من العملاء المنتسبين لعائلتهم؛ ما كان أثر طيب في تجسير هذه الفجوة.

والمطلوب الآن إطلاق مبادرات من شخصيات الإصلاح المعروفين في غزة لتنظيم لقاءات محلية عديدة في مختلف القطاع لتقوية الثقة بين أفراد المجتمع وتجاوز الآثار السالبة التي سببتها الحرب، عبر تحميل المجرم جرمه دون المساس بعائلته وأقاربه.

رابعاً: توفير فرص عمل:

إن الاستقرار الاقتصادي بشكل يلبي احتياجات الأسر الأساسية يسهم بشكل فعال في ترميم النسيج الاجتماعي وإعادة تجميع الأسر التي تفككت، ويمكن استيعاب ما بات يعرف بالناجي الوحيد في أسرته الممتدة وتوفير الكفالات اللازمة له حتى يشب ويشتد عوده، وهذا الدور تتحمله مؤسسات المجتمع الدولي بشكل أساس عبر وكالة «الأونروا» وغيرها من مؤسسات داعمة، وينبغي للدول الإسلامية؛ حكومات وأفراداً، أن يقوموا بواجباتهم في الدعم والإسناد الاقتصادي العاجل، وتوفير منازل مؤقتة سريعة التجهيز ريثما تنتهي عملية إعادة الإعمار، وتوفير فرص عمل لشريحة الشباب خاصة للعمل عن بُعد.

خامساً: المشاركة الشعبية في إعادة الإعمار:

إن اعتماد مقاربات تعتمد التشاركية مع السكان أصحاب الأرض في إعادة الإعمار يعزز مشاركة المجتمع وتكاتفه لإعادة بناء وطنه؛ ما يعزز الشعور بالملكية والانتماء من جانب، وزيادة اللحمة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد، فالكل يعمل لقضية من أهم الأولويات فلا مجال للخلاف حولها؛ ما يعزز تحقق وصف النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حين قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، ولا عجب فنحن أمة الجسد الواحد.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة