«إسرائيل».. واحتمالات المستقبل!
منذ أيام قليلة
أعلن المؤرخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي أن «إسرائيل»، وإن طال المدى، لا تعدو
أن تكون حادثة زائلة.
أولًا: لأن «إسرائيل»
تعتمد على مجرد التفوق الحضاري والتكنولوجي على العرب، والتفوق التكنولوجي
والحضاري لا يمكن أن يبقى حكرًا عليها، فلم يشهد التاريخ أمة بقيت ضعيفة وأخرى
حافظت على احتكارها للقوة.
وثانيًا: لأن
"إسرائيل" نبتة غير طبيعية في صحراء عربية أعشابها بشر منتشرون يقتربون
من ستين ضعفا لها ويحافظون على تكاثرهم.
أسباب أخرى لزوال "إسرائيل"
وثالثًا: لأسباب
أخرى كثيرة.
وبالطبع فإن لنا أن نبدأ باحترام أي رأي مهما كانت الشواهد المتطورة المحدودة مخالفة له، لا سيما إذا كان صاحب هذا الرأي مؤرخ حضارة كبير له دراستان ونظرية مشهورة في تفسير التاريخ.
وما يقوله
توينبي وسط هذا الليل المظلم المحيط بالعرب هو استلهام بشري للتاريخ، لعمليات
الارتقاء وقوانين النشوء وأسباب الانهيار والسقوط، لكنه على أية حال وعي بالحقائق
دون أن تذوب الشخصية التاريخية في ظواهر الواقع ويمتصها الواقع ببوادر الضبابية
المخيمة عليه.
"إسرائيل" لا تعدو أن تكون عرضًا زائلًا
والذين يقرءون
كتاب التاريخ بعيون داخلية، ويبطنون الأحداث ببصيرة محايدة سوف يلوح لهم أن
"إسرائيل" لا تعدو أن تكون عرضًا زائلًا، لكن متى، متى يزول هذا العرض؟
متى يتحرك التاريخ في اتجاهه الصحيح فيسحق هذه الجريمة؟
الرسول في غزوة «الخندق»
ومتى هذه، بكل
معنى الزمانية فيها، تحتاج إلى تحرك مساعد للتاريخ من مواده الخام، من البشر،
أصحاب قضية التاريخ، الذين يعنيهم أن يتحرك التاريخ في اتجاهه الصحيح!!
ومن قبل، أعني
من تراثنا، من صفحات النبوة المشرقة، يحكي لنا تاريخنا هذه القصة، في غزوة الخندق:
فبينما كان
الرسول -عليه الصلاة والسلام- يحفر الخندق مع أصحابه ويطوون بطونهم على الجوع،
ويربطون الأحجار فوقها، بينما هذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- الذي لا ينطق
عن الهوى يعد أصحابه بكنوز كسرى وهرقل، وحقيقة لقد زلزل المسلمون في الخندق
وصبروا، ولقد كان الواحد منهم لا يأمن على نفسه أن يذهب ليقضي حاجته ثم يعود
سالمًا.
وحقيقة أنهم بعد
كلمة الرسول الكريم هذه تعرضوا لامتحانات صعبة، فقد ردوا عن العمرة في الحديبية،
وقبلوا في الحديبية شروطًا ظنها بعض المسلمين مهينة، وارتد ناس كثيرون في الجزيرة
عن الإسلام ودخل المسلمون حربًا عالمية مع أعتى قوى العالم في وقت واحد، بل وهزموا
قبل ذلك في غزوة مؤتة.
نعم، مشى
المسلمون في موكب التاريخ منطلقين من وعد ربهم وكلمة نبيهم التي لم تقل لمجرد
التشجيع، فالرسول -عليه السلام- لا يكذب قط ولا يمزح كاذبًا ولا يكذب مازحًا.
ومع كل ما
قابلهم من صعاب وصلوا إلى أكبر بقعة انتشر الإسلام فيها، وتحقق على أيديهم وعد
الله بالنصر ووعد نبيهم الذي لا ينطق عن الهوى حين وعدهم بكنوز کسری وهرقل،
والتاريخ لا يعبأ كثيرًا بالانتصارات أو الهزائم العابرة، وكل ما يهمه هو الصمود
الحضاري والتمسك بالخصائص التاريخية للأمة!!
إن اليهود قد
أذلوا وطردوا وعذبوا على امتداد تاريخهم، بأيديهم وأيدي المؤمنين، ما كان كفيلًا
بتدمير أجناس بشرية بأكملها، لكن اليهود الأذكياء، كانوا يعلمون.
كانوا يعلمون أن
القضية ليست قضية نتيجة وقتية لعمل وقتي، وإنما هي كلمة التاريخ الفاصلة حين تذوب
مقومات حضارة أمة فيعلن التاريخ في ذلك الحين كلمته الأخيرة الفاصلة.
تمسك اليهود بتوراتهم المحرفة
كان اليهود
يعلمون أن هزيمتهم الحقيقية هي يوم تهزم التوراة، فتمسكوا بالتوراة رغم تشتتهم في
العالم أكبر تشتت!
وكان اليهود
يعلمون أن هزيمتهم الحقيقية هي يوم يهزم لسانهم، يوم تبلبل أفكارهم وتتوزعها
ثقافات متضاربة متصارعة، هي -بإيجاز- يوم تهزم العبرية، فبقوا يحيونها بينهم،
وعبروا كتبوا الطب، وفرضوها لغة أولى على معاهدهم وكلامهم!! وكان اليهود يعلمون أن
هزيمتهم الحقيقية هي يوم تهزم إرادتهم، يوم يهزم الأمل القابع في أعماقهم، يوم تقل
ثقتهم في وعود توراتهم، التي لفقوها!
ومن هنا ظلوا
يؤمنون إيمانًا عميقًا بتوراتهم وبما دسوه فيها من وعود وأكاذيب وفي كل مناسبة
كانوا يحيون بعضهم: «العام القادم في أورشليم».
لم تهدأ ثورة
الأمل في نفوسهم، ولقد مروا بأزمات كان أقلها كفيلة بإبادة كل إرادة الحياة في
نفوسهم، ولكنهم تمسكوا وصبروا ووثقوا ثقة عمياء في باطلهم، ولم توزعهم الأفكار
التي توزعت غيرهم من أمم الأرض والتي كان لهم فضل انتشارها.
وبقي الأمل
حيًّا آلاف السنيين فيهم ولم يمت!! وكان اليهود يعلمون أن هزيمتهم الحقيقية هي يوم
يهزم تاريخهم، يوم ينتهي انتماؤهم اليهودي وتوزعهم انتماءات تاريخية وحضارية أخرى،
وما كان أسهل هذا الذوبان بالنسبة لليهود المحدودة العدد الذين توزعتهم كل بقاع
الأرض، لكن اليهود تمسكوا بتاريخهم، بانتمائهم إلى موسى وسليمان وداود -كما
يزعمـــــــــون- وبانتمائهم إلى القدس وبيت لحم وهيكل سليمان -أيضا كما يزعمون-
وظلت عقولهم تحمل خريطة معينة للقدس.
خريطة تعيش في
عالم أدمغتهم وحدها.
واحترموا هوسهم
وجنونهم واحترموا انتماءهم الذي كان كفيلًا بإثارة الضحك والسخرية لكنهم فرضوا هذا
الجنون وأرغموا العالم على أن يعيد النظر في أمر هذا الجنون، بالإرادة، بالتاريخ،
باللغة، بالعقيدة!
ظهور صلاح الدين الأيوبي
وعندما ظهر صلاح
الدين الأيوبي، كان الصليبيون في الأرض الإسلامية حقيقة من حقائق الوجود، كانوا
أمرًا واقعًا وكان لهم عشرات السنين وارتبطوا ارتباط الوطنية والحياة بأنطاكية
والرها، وطرابلس، والقدس، وطرسوس.
وكان ثمة ألف حل
استسلامي مطروح في السوق، بل كان الصليبيون وسيلة من وسائل الوصول إلى الحكم
بالنسبة لبعض الحكام أو طالبي الحكم.
لكن صلاح الدين
رفض كل الحلول التنازلية التصفوية، وانتصر في عديد من المعارك ختمها بموقعة حطين 583هـ/
1187م.
وفي نفس السنة
تقدم صلاح الدين إلى الساحل فاتحًا عكا وصيدا وبيروت ويافا ونابلس والرملة ثم نجح
في فتح بيت المقدس ودخل المدينة الخالدة وأعطى الأمان أسر الفرنج البالغ عددها نحو
17 ألف فرد وأمر بتنظيف المسجد الأقصى وغسل الصخرة بالماء الطاهر وماء الورد وأقام
الصلاة بالمسجد الأقصى بعد انقطاعها عنه 88 عاماً!
لقد حاول
ريتشارد قلب الأسد أن يعقد أي صلح مع صلاح الدين يعطيه حق السيطرة على القدس، بل
لقد عرض أن يزوج أخته جوانا بالعادل أخي صلاح الدين على أن تكون القدس والمدن
الساحلية له، لكن صلاح الدين رفض كل هذه العروض.
إن صلاح الدين
كان قد أثار مقومات الأمة، فحرك فيها عقيدتها، وحرك فيها عروبتها، وحرك فيها
امتدادها التاريخي، وانطلق من كل ذلك إلى معركة الجهاد، وانتصر صلاح الدين بطل
حطين ومذل الصليبيين!
سيف الدين قطز يكتسح التتار
والموقف نفسه
وقفه سيف الدين قطز بعد أن كسح التتار بغداد وقضوا على خلافة الإسلام الكبرى سنة
656هـ.
وأمام الرعب
العالمي الذي أحدثه التتار، وأمام الإساءة التي قدمها هولاكو للمماليك على لسان
رسله، أمام كل هذا، وأمام استسلام كثير من بقاع الإسلام للتتار، بدأ سيف الدين قطز
بقتل الرسل، وأعلن راية الجهاد، واستثار الأمة، استثار دينها وعروبتها، وخلافتها
الإسلامية التي سقطت، واستثار إرادتها وتاريخها، وكان له من جهود الشيخ عز الدين
بن عبد السلام خير مؤيد ومعين، وانتصر سيف الدين قطز، وانتصرت الإرادة والتاريخ
والحضارة، انتصرت واإسلاماه، بل لقد أصبح هؤلاء التتار البرابرة الزاحفون من خير
جند الإسلام وحماته!!
ليس المهم أن
تهزم أمم أو تنتصر، إنما المهم ألا تختلف حول قضايا الحياة فيها.. حول دينها
ولغتها وتاريخها وإرادة البقاء فيها!
أرنولد توينبي يقف ضد الأكاذيب اليهودية
وفي رأينا أن
أرنولد توينبي صاحب موجز دراسة التاريخ وصاحب الحضارة في الميزان وصاحب المحاضرات
الشهير في معظم العواصم الكبرى.
هذا الرجل الذي
وقف غير مرة ضد الدعاية الصهيونية، ووقف ضد الأكاذيب اليهودية التي تزعم لنفسها
حقًّا تاريخيًّا في بلاد المسلمين.
هذا الرجل لا
يهذي حين يطلق تصريحه عن ضرورة زوال "إسرائيل"، إنه يستلهم التاريخ، إنه
ينطلق من الجوهر وليس من الشكل والسطح إنه يعلم جيدًا أن اليهود لن ينتصروا لأنهم
أقوياء، بل لأنهم -في الحقيقة– لم يجدوا أمامهم أية قوة، لقد تقدموا في فراغ تام،
لقد وجدوا أمامهم أشلاء ممزقة من الأرض والفكر والسطحية والإلحاد والتحلل والتخلف،
إنهم لم ينتصروا لأنهم شيء، بل لأن الذين أمامهم لا شيء عجزة، متجمدين، فقدوا كل
إحساس بالتاريخ والحياة، فقدوا العقيدة المحركة للإحساس، إن النصر على أمثال هؤلاء
ليس مفخرة، ليس كلمة أخيرة في التاريخ فأمثال هؤلاء لا يمكن أن تتحمله الحياة
كثيرًا، إن جيلًا آخر لا بد أن يظهر، جيلًا جديرًا بالحياة حقيقًا بها، جيلًا له
دينه ولغته وتاريخه وإرادته: وباسم هذا الجيل، وإرهاصات به، وإحساسًا تاريخيًّا
بمقدمه يتكلم المؤرخ المشهور «أرنولد توينبي»(1)!
للمزيد:
- لمن
تُدق الأجراس في «تل أبيب»؟!
- كيف
تسيطر الحركة اليهودية على الســياسة والتجـارة في الولايات المتحدة؟
-
الحركة الصهيونية.. عوامل النهوض والانهيار
- أيها
المنهزمون.. اتركوا الساحة لأهل الجهاد في فلسطين!
- القدس
ستبقى همنا الأكبر مهما كثرت المشكلات
- محاولة
لفهم الجذور الثقافية للتأييد الأمريكي المطلق لـ«إسرائيل»
_________________
(1)