لمن تُدق الأجراس في «تل أبيب»؟!

جمال النهري

21 أكتوبر 2025

88

المعركة الأساسية والمعارك الفرعية في تفكير اليسار

المعركة الأساسية في نظر اليسار هي المعركة بين الشعوب (ومنها الشعـب الإسرائيلي) وبين الرجعية أما المعركة بيننا وبين "إسرائيل".. فيعبر عنها بالنص الآتي: "توجد تناقضات مختلفة في المنطقة ومن بينها... "النزاع الإسرائيلي العربي".

الآن يسعى اليسار لحرماننا من تجميع القـوى لمقابلة "إسرائيل".. ألم يُثبت تاريخ الحركة الصهيونية استخدام كل القوى شيوعية كانت أو رأسمالية لإقامة الدولة اليهودية؟!

من المنطقي أن تسعى الاستراتيجية الإسرائيلية لتفتيت الجبهة العربية من الداخل.

واليسار خير معول لذلك، والمخابرات الإسرائيلية لا يصعب عليها أن تجعل من «مايرفلنر» و«راكاح» واجهة تستر بها جسور التعاون الممتدة داخل الأرض العربية.. حتى أبواب اليسار..

ترى هل ننسى كيف خلقت إدارة المخابرات من «إيلي كوهين» أمين ثابت المغترب العربي السوري؟

اليسار يريدنا أن نقاتل الرجعية قبل أن نقاتل "إسرائيل"، وهو ينادي المخلصين في "إسرائيل"، وفي الشعوب العربية بأن يتحدوا من أجل هذا.

فمن تكون الرجعية العربية في مفهوم اليسار؟

الرجعية العربية في مفهوم اليسار ينصرف:

أولًا: إلى الأغنياء العرب أو الرأسماليين وحكوماتهم.

وهؤلاء منهم من استعلى على قيم المال الزائلة فأخذ يُحرّك هذا المال في قنوات الواجب الإسلامي.

ومن هذه النقطة يتحرك اليسار ويطالب بالتصفية لحساب التناقض الأساسي كما يسمى بيان «عصبة ماير فلنر - الخولي».. وهذه نقطة هامة فليس المقصود الحقيقي بالتصفية كل فئة الرأسماليين.. ولكن فئة منهم وهي تلك التي تُفكّر بالوقوف في وجـه اليهودية العالمية، وهذه عليهـا أن تُدرِك بالنظرة الشاملة حقيقة الخطر الثنائي.. اليسار واليهودية العالمية.

المليونيرات اليهود والمليونيرات العرب

لقد استطاعت الحركة الصهيونية أن تُجنّد لحساب قوتها الطرفين اللذين يبدوان على المسرح السياسي العالمي كما لو كانا طرفي نقيض..

من «أنا بوكر» للزعيمـة الرومانية الشيوعية إلى روتشيلد المليونير اليهودي.

فهل سمعنا بيهودي واحد ماركسي أو غير ماركسي يطلب بتصفية المليونيرات اليهود الذين يوالون تدعيم "إسرائيل"؟

وآخر مؤتمر لهم لم ينقض على انعقاده في القدس بضعة أشهر؟

لماذا لم تعلن الحرب ضد المليونيرات اليهود أمثال خلفاء «روتشيلد وفليكس ويعقوب شيف وكوهين وليب» وشركائهم وخلفائهم؟

قواعد الإستراتيجية الإسلامية الوليدة

ونحب أن نُسجّل هنا أننا لسنا من أنصار الرأسمالية المستغلة أو الشيوعية المتحدة ولكنا سنظل نردد الإسلام كنموذج أمثل لنظمنا الاجتماعية.

كذلك ينصرف مفهوم الرجعية العربية، (ثانيًا) إلى القوى الإسلامية التي تُحاول أن تؤدي واجب العقيدة على أرض المعركة.. هذه القوى التي لا تريد (القفز) أو «التوجيه» من مواقع القيادة، أو أن ترى تعاظم مكانتها ولو قاتلت بغير راية أو دعاية.. مجرد وقوفها في الصفوف مقلق ومثير.

لماذا؟ لأنه يثير خطورة المواجهة بالشكل الذي يجب أن تكون عليه.

وشعار هذه المواجهة «تكتل إسلامي دولي في مواجهـة تكتل يهودي عالمي» الاستراتيجية اليهودية تُقرّر أن «أمن الشعب اليهودي وأمن "إسرائيل" متلاحمان» كذلك فإن الشعار المقابل الذي ينبغي أن ترفعه الاستراتيجية الإسلامية الوليدة «أمن الشعب الإسلامي وأمن فلسطين الإسلامية العربية متلاحمان».

هذه القاعدة تنبع من قانون الجسد السياسي الإسلامي الواحد (مَثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد).

الاتحاد السوفييتي وفتح وحركة الإخوان

ومن هذه النقطة.. نقطة الحساسية الفائقة من «انبعاث» عمل إسلامي فدائي.. له جذوره المترامية تفجّر موقف الاتحاد السوفيتي تجاه العمل الفدائي، ففي 27 أبريل 1969 وقع حادث مثير دلّ على اتجاه تفكير السوفييت فقد عُقد في أحد العواصم العربية اجتماع بين ديبلوماسي سوفييتي كبير وممثلين عن فتح (نشر بجريدة الحياة في 27 نیسان 1969 تحت عنوان أسرار الحوار بين الدبلوماسيين الروس وأركان الفدائيين) سأل فيه ممثلو فتح الديبلوماسي الكبير:

لماذا لا يقوم السوفييت بمساندة الفدائيين؟ ودار الديبلوماسي حول السؤال وبدأ يسأل ممثلي فتح عن (نوع الحكم) الـذي سيقيمونه بعد إنشاء الدولة الفلسطينية، مُلمحًا إلى وجود «حركة إسلامية» في صفوف فتح.. وإلى أن الاتحاد السوفييتي لا يستطيع أن يطمئن بسبب وجود أمثال هـذه «العناصر الرجعية» في صفوفهم.

ورد الفدائيون بقولهم: «إن فتح تضم أشخاصًا من كل الميول والاتجاهات، وهي تحرص كل الحرص على عدم زج الفلسطينيين في صراعات عقائدية في فترة يجب أن تنصرف فيها كل جهودهم لهدف واحد هو تحرير الأرض».

الشيوعيون المصريون والشيوعيون اليهود ومن خلفهم المخابرات الإسرائيلية توجّه الصراع.. وتقول التناقض الأساسي إنما هو مع «الرجعية» والاستعمار والفدائيون يقولان: «الهدف الكبير: تحرير الأرض».

فإذا بقي ذلك تفكير الفدائيين.. إذن فلتحجز «الأمروسيا» لبنها الأحمر الماركسي عن حركة التحرير.

موقف الكويت والسعودية

واستطرد المسؤول السوفييتي «لماذا تأخذون إعانات ومساعدات وأسلحة من دول رجعية مثل المملكة السعودية والكويت»؟

ورد الفدائيون: «نحن لا نؤمن بالتصنيف السياسي» رجعي وتقدمي.

الرجعي: هو الذي لا يساعد حرکتنا لاسترداد الأرض المغتصبة.

والتقدمي: هو الذي يمد إلينا يد المساعدة في هذه المحنة المصيرية.

 والخبر إذا ما حللناه فلا مطعن فيه إذ هو يتفق مع الخطوط التي يرسمها الخولي ومايرفلنر والعالم، وكان لا بد أن ينتهي هذا الاجتماع بالفشل.

فهل تعي الدول العربية المعنية بهذه الأحاديث هذا الموقف؟

وهل تعلم الحركة الإسلامية واجباتها بشأن قضية أمن الشعب الإسلامي والأرض الإسلامية؟

إغفال عدوان 1948 ومغزاه

حديث لطفي الخولي لا يذكر إلا عدواني 56،67 متقيدًا بما ذكره «بيان مايرفلنر» فلماذا أسقط الحديث عدوان 1948 وهو العدوان الأساسي.

هذا الإسقاط سببه واضح لأن الاتحاد السوفييتي سارع إلى الاعتراف بالدولة اليهودية حينذاك ومدّها بالأسلحة المختلفة من دول أوربا الشرقية «ولا سيما تشيكوسلوفاكيا»، وإسقاط ذكر عدوان 1948 خيانة عقلية كبرى.. فلولا هذا العدوان التأسيسي ما حدث عدوان 1956،1967 أصلًا.

وفي المحاولة الكبرى التـي يُعالج بها اليسار العقلية المصرية، ومن ثم العربية.. مستغلًا وسائط الإعلام الضخمة يدَّعي ضمن عديد من ادعاءاته المزيفة «أن الصهيونية ما قامت إلا لتحارب الدول التقدمية والأنظمة التحريرية».

فهل نسي هؤلاء أن "إسرائيل" قامت عام 1948 وأن دولة عربية متحررة واحدة لم يكن قد تم ميلادها بعد؟ عام 1948، عام محرج لليسار، ولذلك يسقط من التاريخ اليساري ومن مناقشات اليسار، الغرض النهائي توجيه حركة المقاومة للداخل نحو مزيد من التخريب للجبهة العربية.

وحتى نسقط جميعًا في النهاية طعمًا سائغًا في فم اليسار المتلهف لامتلاك زمام القيادة.

صلات وثيقة بين الصهيونية والاشتراكية

تغلغل اليهود في الثورة الشيوعية

1- إن مجلس تحرير جريدة «الإيسكرا» أي الشرارة أول جريدة سرية شيوعية كان يتكون من سبعة أشخاص أربعة منهم يهود بينهم «تروتسكي» وثلاثة غير يهود، ولكن زوجة أحدهم يهودية وهو الزعيم «لينين».

2- إن الذين قادوا الثورة الشيوعية خمسة: «لينين، زينوفييف، كامينيف، تروتسكي، وباكوف سفر ولوف» وكلهم يهود ما عدا لينين.

أعوام 1946 – 1947 أعوام حاسمة

هذه الفترة التي أسقطها «بیان مايرفلنر - الخولي» هي نفس الفترة التي بلغ فيها الاستعداد اليهودي قمته، وكانت مصر مشغولة بحكم «إسماعيل صدقي» رئيس الوزراء آنذاك ومشروع معاهدة صدقي بيفن كان هذا نصيب مصر من الخطة العامة المقررة في المنطقة على مستوى المطامع الدولية كي تشغل عن دورها الواجب، حتى إن أحد رؤساء وزاراتها لما فوتح في مشكلة فلسطين وواجب مصر تجاهها صرَّح قائلًا: «أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين» في هذه الفترة ذهبت بعثة يهودية برئاسة موسى شاريت لدول أوربا الشرقية بعد استئذان «ستالين». 

"انظر دور الدول الاشتراكية في تكوين "إسرائيل" - إبراهيم الشريف".

برنامج بن جوريون

وأما البرنامج الذي وضعه بن جوريون في الرملة أثناء انعقاد المؤتمر الثاني لعمال صهيون فلم يكن في محتواه إلا تعديلًا خفيفًا «للإعلان الشيوعي»، فكيف تقوم إذن الحرب بين الاشتراكية والصهيونية.. وكيف تكون "إسرائيل" خطرًا على النظم التقدمية؟!

لقد كان غرض الصهيونيين الأساسي هو الحصول على الأرض.. لا محاربة الأنظمة التقدمية كما يدَّعون.

مذكرات بن جوريون

يصف بن جوريون رحلة ذهابه إلى فلسطين عام 1906 في كتابه «بعث إسرائيل ومصيرها» يقول: «لم أستطع النوم في أول ليلة وصلتُ فيها.. مشاعري غلبتني، هذه الليلة محفورة في ذاكرتي بكل ما تعني من فرح ونجاح، إنني في أرض "إسرائيل"، وأرض "إسرائيل" حولي أينما توجّهت!

إنني أسير على أرضها وأنظر إلى سمائها ونجومها التي لم أرها من قبل، جلستُ طيلة الليل أفكر في سمائي الجديدة».

هذه أحاسيس بن جوريون عام 1906، فإذا أضفنا إليها محاولة الاطلاع على الحوار بين الأقطاب الثلاثة "روزفلت" و"تشرشل"و"ستالين" حول المسألة اليهودية كما يرويها جون سوريل في كتابه من «يالطا إلى بوتسدام» سنجد عجبًا:

فأولًا: ستالين طلب مضاعفة التعويضات المفروضة على ألمانيا لصالح اليهود.. لإنفاقها في إنشاء مستعمرات في فلسطين تستوعب ثلاثة ملايين يهودي من الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، أما تشرشل فقد أجاب بأسلوب دبلوماسي مرن «إن رقعة فلسطين الخصبة «الضيقة» لا تستوعب كل هذه الملايين اليهودية».

ورفع قيود الهجرة سيبث موجات من الاضطرابات في البلاد العربية.. لا تستطيع بريطانيا أن تحلها منفردة من غير اشتراك دولي جماعي.

فابتسم ستالين قائلًا: «مشكلات الأقليات في الشرق لا تحل إلا بتعميم النظام الاشتراكي الكفيل بالقضاء على الحركات القومية التي اقتلعنا جذورها من الاتحاد السوفييتي وأنقذنا من بلواها».

هذه الجمل الموجزة التي تبادلها الأقطاب.. كانت تُقرّر نوع وموعد الأحداث التي ستنطبق على عالمنا ولم يكن مقررًا لكثافتنا التي تملأ الطرقات كل صباح أن يسقط عن عقولها غشاء الأوهام اليومية التي تسحبنا بعيدًا عن مناطق التفكير الثقيل.

والسؤال الكبير هو: هل يمكن أن تنشأ حركة مقاومة أصيلة دون أن تتكون لهـا استراتيجية فكرية تكشف الفصول المركبة التي دبرها مخرجون عالميون؟

دون هذا التفكير تصبح المقاومة مجرد حوادث قتل، وتحرك طوابير في طرق مسدودة ومجرد نمو مراقب داخل أواني زجاجية مغلقة.

ومن هنا نشأ الواجب بتفهم حلقات الفكر اليسارية باعتبارها جزءًا من المخططات التي ترتع في عالمنا متضامنة مع الاستراتيجية الإسرائيلية للقضاء على القوة الحقيقية للتيارات الإسلامية التي تعد المقاومة الفدائية بأسباب الحياة من أعمق آبارها الحية في المنطقة.

وكي نكتشف من أي موقع من مواقعنا الداخلية تعمـل الاستراتيجية الإسرائيلية ولكي نعلم لمن تدق الأجراس في تل أبيب؟![1].

للمزيد:  

- كيف يسيطر اليهود على أمريكا؟

- الكويت تقود معركة الدفاع عن القدس بالمحافل الدولية وتمثل عمقاً للشعب الفلسطيني

- الحركة الصهيونية.. عوامل النهوض والانهيار

- الحركة الصهيونية.. عوامل النهوض والانهيار

- أيها المنهزمون.. اتركوا الساحة لأهل الجهاد في فلسطين!

- القدس ستبقى همنا الأكبر مهما كثرت المشكلات

- محاولة لفهم الجذور الثقافية للتأييد الأمريكي المطلق لـ«إسرائيل»

- خطأ مقولة: «نقبل بما يقبل به الفلسطينيون»!

- عرفات وفتح والتيار الإسلامي

- صوت الضمير في الغرب

 


[1] - نشر بالعدد (5)، 8 صفر 1390هـ / 14 أبريل 1970م، ص12.   

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة