العنوان أزمة المثقفين
الكاتب د. نجيب الكيلاني
تاريخ النشر الثلاثاء 15-يونيو-1971
مشاهدات 20
نشر في العدد 64
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 15-يونيو-1971
أزمة المثقفين
بقلم الدكتور نجيب الكيلاني
الحرية..
حياة الإنسان..
ومناخ الدعوة الإسلامية
الفرق كبير بين حفظة الأمن وجلادي الشعب، حقيقة هامة يجب أن يدركها المثقفون في أمتنا، والحقائق البديهية الأولية للأسف الشديد، كثيرًا ما تخضع للجدل الفارغ، والتبريرات المضحكة، وأنا لا أسوق الكلام اعتباطًا، ولا أتهم المثقفين بما ليس فيهم، فلو نظرنا إلى الحقبة المنصرمة، لوجدنا كثيرًا من الأقلام الخائفة أو الطامعة، كانت تبرر العنف، وتتميز في الداخل والخارج، أذكر إنه عندما صدر كتاب «الحرب النفسية» لرجل المخابرات القديم صلاح نصر، أفردت له بعض الصحف مساحات كبيرة لعرضه، والثناء عليه، وتحليل «روائع» الفكر العميق فيه، وكان الكتاب دعوة صريحة لهدم النفس الإنسانية، وكيانها الروحي والبدني فيما يسميه المؤلف بعملية «غسيل المخ»، كان دعوة لمسخ الإنسان، وتحويله إلى حيوان للتجربة ولم نقرأ سطرًا واحدًا في مهاجمة الكتاب، أو مجرد نقد منهجه أو الاعتراض على الأسس السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي نهض عليها «ثم تمر الأيام» ويسقط صلاح نصر، وتنهال عليه التعليقات، ويرمى بالخيانات، ثم تأتي نفس الصحيفة، بل نفس الكاتب الذي أثنى على كتاب «الحرب النفسية»، يأتي ليكتب أعمدة إضافية عن انحراف المخابرات وتزييفها للوقائع، وإرهاقها للفن والفكر وحرية الإنسان وكرامته، وتدميرها أو تشويهها لمكاسب الشعب.
· حرية الكلمة
إن المثقفين في أمتنا يدركون قبل غيرهم، أن «حرية الكلمة» تضيء الطريق، وتسرع بالخطى إلى التقدم الحقيقي، وتخلق الوعي المستنير، وتحرك الفكر، وتثري الوجدان، وتصنع الإنسان المتحضر المتفتح، الكلمة الحرة تجعل من أفراد الأمة مواطنين شرفاء، قادة، كلهم قادة، وأعني بالقيادة، شعور كل فرد بمسئوليته الذاتية نحو أمته وقضاياها، إنها ضرب من الإخلاص والحب، وشعور بالمشاركة الفعلية في تحمل العبء، فالعبيد يؤدون دورهم في الحياة، إن رضوا أو سخطوا، والأحرار يجدون دوافع سامية، تشرق في قلوبهم وأرواحهم، وتملؤهم اعتزازًا بأنهم حماة الوطن وتراثه ودينه، هم الوطن، والوطن هم، نسيج واحد لا يمكن تجزئته أو فصله.
والكلمة الحرة لا يخافها إلا المرضى والمتشككون والطغاة، ولا يحاربها إلا منحرف، لندع الكلمة الحرة تنطلق، ولنترك الأفكار تناقشها، فالسلطة ليست وحدها صاحبة حق الرفض والقبول، فالمصلحة العامة، كما هو واضح من تركيبها، تكتسب صفة العمومية، وهي مصلحة القائل والمتلقي، والمؤيد والمعترض، والذين يرفضون الكلمة الحرة جبناء، أو يشعرون بإثم خفي، ذلك الشعور بالإثم الذي يعمل في قلوب اللصوص والكاذبين والمتآمرين، ويجب أن يدرك المثقفون أن الكلمة لن تكون حرة إلا إذا تحررت «الأداة» التي تحمل هذه الكلمة، أي لا بد أن تتحرر الصحافة من قبضة السلطة، وأن تملك وسائل النشر مصيرها وحريتها في الحركة، وأن تتحرر الجامعات من سيطرة الإرهاب والقهر، وأن يترك للنقابات حرية التعبير دونما عنف أو اضطراب أوفوضى.
· الدعوة الإسلامية في ظل الحرية
وبالنسبة للعاملين في حقل «الدعوة الإسلامية»، أعتقد أنه يجب أن يضعوا قضية الحرية على رأس الموضوعات التي يعالجونها، ففي ظل الحرية المتاحة يستطيع حملة الفكر الإسلامي أن يتكلموا، وينشروا كلماتهم، ويواجهوا انحراف العقائد، ويلتقوا بجمهور الأمة دون تهيب.
عندئذ يستطيع الفكر الإسلامي -في ظل الحرية- أن يدخل في حياة الناس في النادي والمصنع والشارع والمدرسة والحقل، أن يعمل في النور، ويرفع هامته دون أن تصطدم رأسه بسقف زنزانة ضيقة، أو يهوي عليها سوط جلاد، أو تحطمها قبضة طاغية، عندما تتحقق الحرية، ينفتح الطريق أمام القيم العامرة بالحب والإيمان والعدل، ويجب أن يؤمن المثقفون في أمتنا، بوحدة قضية الحرية، فالحرية ليست وقفًا على جماعة دون جماعة، ولا حزبًا دون حزب، ولا مذهبًا دون مذهب، الحرية حق الجميع في الوطن الواحد أو الأمة الواحدة، ولا إكراه على الإطلاق، حتى الدين ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ﴾.
إن مصادرة الينابيع العذبة الصافية، وترك الموارد الآسنة، قد لوث أمعاءنا، وأصابنا بجراثيم الخوف والحقد والانطوائية، وأورثنا الجبن والضعة والهوان، وأن سيطرة المغرضين على مقدرات الأحرار، ومنابر الرأي، وأجهزة الإعلام، قد سمم الجو بغازات خانقة، لا تنمو فيها إرادة، ولا يزدهر فيها براعم، ولا تثمر فيها الفضائل.
فلنرفض الإرهاب الواقع على الآخرين كما نرفضه بالنسبة لنا أو لأصدقائنا، ويوم أن يكون فهمنا للحرية فهمًا حزبيًا قبليًا عنصريًا، فلن تكون تلك هي الحرية، ستكون ضربًا من الزيف والظلم الذي لا يرضاه الله ورسوله.
ضوابط رشيدة
والحرية بالنسبة للمسلم الفرد، تحددها آداب دينه، وأوامره ونواهيه، وخروجه عن هذه الحرية الذاتية، أمر يعاقبه الله عليه، ولا حكم لأحد عليها إلا إذا تخطت دائرته الشخصية، وانعكست على أخلاقيات المجتمع ونظمه وحقوق أفراده، في ظل المبادئ التي كفلها الله لعباده، والإضرار بالمجتمع أو الآخرين، أمر لم يترك توضيحه أو البت فيه لإدارة حاكم أو هيئة أو طائفة، وإنما أوضحته آيات الكتاب الكريم، وتعاليم الرسول، وسيرته العطرة، ولا شك أن العودة بالمقاييس الخاصة بالحرية إلى خالق الكون، يحيط الحرية وكفالات مقدسة، ويحميها بنصوص إلهية، تسمو فوق طاقة البشر وفكرهم وفلسفاتهم، وتضع حدًا للخلافات المذهبية والشخصية بين الناس، ولنحذر في هذا المقام تأويلات الخائفين من العلماء، أو المأجورين من الادعياء، ولنعتصم بالمنابع الأصيلة، والمصادر النظيفة.
القهر مناخ الطغيان
إن ما يصيب الحرية في المقتل أن نحرص عليها لأنفسنا، ونحرمها على معارضينا، والحرية نعمة من نعم الله الكبرى، والله سبحانه لم يحجب كثيرًا من نعمه عن الإنسان والحيوانات والحشرات، والحرص على الحرية يحتاج إلى بطولة، إلى تضحية، فعندما تنتكس الحرية، تضطرب الموازيين، وتسوء العاقبة، ويغرق الناس في جو من الفتن كقطع الليل المظلم، وكلما امتد سلطان الظلام، ازداد الجبابرة تشبثًا بنفوذهم، وأمعنوا في غيهم وانحرافاتهم، فيستكين الناس - ولو إلى حين - إلى الذلة والصمت والخوف، فيستشري الفساد، وتتوقف عجلة التقدم، ويجد أعداء الله والإنسانية الفرصة مواتية، للانقضاض على ما تبقى من قيم وعقائد، وتسود الجاهلية من جديد، ولن تخفى معالم الجاهلية لمجرد عمارات ضخمة تقام، وجامعات كبرى تنشأ، وجيوش مجهزة بأحدث الأسلحة تحتشد، ووسائل حضارية تستورد، فالجاهلية معنى قبل أن تكون مبنى، والجاهلية فكر منحرف، وروح خربة.
واجب المثقفين أن يتغنوا بالحرية في كل زمان ومكان، أن يجعلوها رسالتهم الأولى، لأنها المناخ الحق لترعرع الفضيلة، والقيم الخالدة، وسعادة الإنسان، أعود فأقول إن هناك فرقًا كبيرًا بين حفظ الأمن، وجلادي الشعب.
وعناصر الأمن في الأمة كثيرة، ولن يكون ضرب المعارضين -كل المعارضين -حفظًا للأمن، ولن يكون الإرهاب، وتجاهل القانون والدستور مدعاة للأمن، لأن أمن المواطن جزء من الأمن العام، فما معنى أن نحفظ الأمن بالوسائل البربرية لحماية السلطة، وفي نفس الوقت نحرق أمن الجماهير، ونحيل حياتها إلى رعب وجحيم وشكوك، وأيا كان الأمر فإن ضرب المواطن، وحرمانه من حق التعبير، وعدم اطمئنانه على كيانه الاقتصادي والروحي والفكري، لن يحقق أمنه، وبالتالي لن يتحقق للوطن الأمن المنشود.
· التجربة المرة
والغريب أن التجارب العديدة، في حياة الأمة، على مدار السنين الطويلة، قد أوضحت هذه الحقائق بما لا يدع مجالًا للشك، وحدث أكثر من مرة أن ردد الحكام وغيرهم ضرورة إقامة الحرية على أسس سليمة، دونما رقابة أو غدر أو اعتساف، لكن سرعان ما تتسرب وسائل العفن، وتنمو مراكز القوة، وتتغلغل المطامع، ويعود الظلام، ويمارس العنف بشتى صوره وألوانه، دون مراعاة لقانون أو ضمير.
ثم أليس للمجرم حق؟؟ إن المخطئين سياسيًا، خطأ يحدده القانون، لا يمكن أن يتركوا هكذا لتصرف القساة من رجال الأمن، ومن حق المخطئ الذي يكون تحت طائلة التحدي والتحقيق، من حقه أن يعامل كإنسان من ناحية المأكل والملبس والمشرب، ومن ناحية رزق أسرته واتصاله بهم عن طريق الزيارات القانونية، وتبادل الرسائل، وحق الدفاع عن النفس، وعدم تعريضه لوسائل التعذيب التي كثيرًا ما وصلت به إلى الموت، للمتهم حقوق، وللمجرم حقوق، تكفلها القوانين الدولية، والقوانين المحلية، والخروج على هذه الواضعات خروج على القيم الدينية والإنسانية الشريفة، وهل ننسى أن حملة السياطبالأمس، وجبابرة السجون، في كثير من الدول، قد أصبحوا بين عشية وضحاها مساقين إلى منصة القضاء، تثقل كواهلهم وخطاهم جرائم سياسية، ونزلوا بالأماكن التي كان ينزل بها ضحاياهم في الماضي؟؟ إن حماية أمن المواطن - أي مواطن - سينسحب على الجميع، سيحمي الظالم والمظلوم، ويحمي القاضي والمتهم، والمؤيد والمعارض، فالتحولات سريعة، والأيام -كما يقولون- دول، ولا نجاة إلا بالتعويل على القانون، والحصانة الحقيقية للقضاء ورسل العدل، وجعل القضاء بمنأى عن التقلبات، بعيدًا عن التأثيرات والإغراءات والتهديدات، فالقضاء الحر النزيه هو شرف الأمة، وعنوان أمنها، ومناط حريتها، هو الحارس الحقيقي لأمن الوطن والمواطن، ولا معنى لأمن سياسي يفقد المواطن فيه أمنه، فعلى رجال الأمن أن يتيقنوا أن حمايتهم للحرية، وسيادة القانون إنما هو الأمن الحقيقي، والرسالة الصادقة.
· التبعية عبودية
ويجب أن يعلم المثقفون أن سقوطنا تحت حماية أمة كبرى، نأتمر بأمرها، ونخطط سياساتنا على هواها، سوف يسلبنا بالتبعية حق التعبير الحر كأمة، والأمة التي تفقد حرياتها على أعلى مستوى، مستحيل أن تحقق الحرية والأمن لمواطنيها، وفي التلميح ما يغني عن التصريح.
الحرية وحدها هي الطريق، ومنها تنبت القيم الفاضلة، وفي ظلها ترتفع منارة الإيمان والعدل والإخاء، فلنجعل من الحرية أغنية على كل الشفاه
.نجيب الكيلاني
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
من دولة كبرى إلى تابعة: روسيا.. عملاق مشلول في الساحة الدولية
نشر في العدد 1256
11
الثلاثاء 01-يوليو-1997