إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية (18)
اغتنام العشر الأواخر من رمضان

روى مسلم في
صحيحه عن أم المؤمنين عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ،
مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِا»، وعَنْهَا أنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ،
وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ».
مظاهر
حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على اغتنام العشر الأواخر من رمضان:
1- الاغتسال
والتطيب ولبس أجمل الثياب:
استحب الدعاة
إلى الله تعالى في الليالي التي يُرجى أن تكون فيها ليلة القدر أن يغتسلوا
ويتطيبوا ويلبسوا أجمل ثيابهم، استعداداً لها، ليكونوا في أحسن الأحوال التي تتنزل
فيها الرحمات والخيرات.
وفي هذا يقول
ابن جرير: كان السلف يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، وكان
النخعي يغتسل في العشر كل ليلة، ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون
أرجى لليلة القدر، وقد أَمَر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.
وروي عن أنس بن
مالك أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار أو رداء، فإذا أصبح
طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل، وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث
وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي
ليلة أهل المدينة التي تليها ليلتنا يعني البصريين.
الدعاة إلى الله تعالى كانوا يتزينون
لطاعة الله ويفرحون بالأيام المباركة ويحسنون التهيؤ لها
وقال حماد بن
سلمة: كان ثابت البناني، وحميد الطويل، يلبسان أحسن ثيابهما، ويتطيبان ويطيبان
المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر(1)، وقال
ثابت: كان لتميم الداري حُلَّة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي
ترجى فيها ليلة القدر(2)، وهكذا كان الدعاة إلى الله تعالى يتزينون
لطاعة الله، ويفرحون بالأيام المباركة، ويحسنون التهيؤ لها.
2- الإلحاح
في تحري ليلة القدر:
روى أحمد في
مسنده عن أَبِي مَرْثَد، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ، قُلْتُ: كُنْتَ سَأَلْتَ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالَ:
أَنَا كُنْتُ أَسْأَلَ النَّاسِ عَنْهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،
أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: أَفِي رَمَضَانَ هِيَ، أَوْ فِي
غَيْرِهِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ»، قَالَ: قُلْتُ: تَكُونُ مَعَ
الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ، أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: قُلْتُ: فِي
أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ وَالْعَشْرِ
الْأَوَاخِرِ»، ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَدَّثَ، ثُمَّ اهْتَبَلْتُ (اغتنمتُ) غَفْلَتَهُ قُلْتُ: فِي أَيِّ
الْعِشْرِينَ هِيَ؟ قَالَ: «ابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، لَا
تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا».
ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَ، ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ مُنْذُ صَحِبْتُهُ، أَوْ صَاحَبْتُهُ، كَلِمَةً نَحْوَهَا، قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا».
3- الحرص
على قيام الليل وإيقاظ الأهل له:
روى البخاري عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَطرُقُ فاطِمةَ
وعلِياً لَيلاً فيَقولُ لهما: «ألَا تَقومانِ فتُصَلِّيانِ؟»، وفي صحيح البخاري،
ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ
يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَوْتَرَ، قالَ: «قُومِي فأوْتِرِي يا عَائِشَةُ».
وأخرج الإمام
مالك في «الموطأ»، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ
مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ، يَقُولُ لَهُمُ: الصَّلَاةَ
الصَّلَاةَ ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132).
.. وحرصوا على إدراك ثواب ليلة القدر بالتنوع
في الأعمال الصالحة من صلاة ودعاء واعتكاف
وأورد ابن رجب
الحنبلي عن سفيان الثوري أنه قال: أحب إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد
بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك، وكانت امرأة حبيب
أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد وزاد قليل وقوافل
الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا(3).
4- الإكثار
من الدعاء:
أمر النبي صلى
الله عليه وسلم في هذه الأيام بالإكثار من الدعاء، فقد أخرج الترمذي والنسائي عن
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيْتَ إنْ
وافَقتُ لَيلةَ القَدْرِ، ما أقولُ فيها؟ قال: «قولي: اللَّهمَّ إنَّكَ عَفوٌّ
تُحِبُّ العَفْوَ فاعف عني»، وقال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليّ من
الصلاة، ومراده: أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن صلى
ودعا كان حسناً(4).
5- الاعتكاف:
دعا النبي صلى
الله عليه وسلم إلى الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، ففي صحيح البخاري، ومسلم،
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ
كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ، حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِن بَعْدِهِ.
دوافع
حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على اغتنام العشر الأواخر من رمضان:
1- تحري
ليلة القدر:
أكد النبي صلى
الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، من أجل تحري ليلة القدر،
ففي صحيح البخاري، ومسلم، عن أبي سعيد الخدري، قال: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسلَّمَ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوَّلَ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ
العَشْرَ الأوْسَطَ، ثم قال: «إنِّي اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوَّلَ، أَلْتَمِسُ
هذِه اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فقِيلَ
لِي: إنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، فمَن أَحَبَّ مِنكُم أَنْ يَعْتَكِفَ
فَلْيَعْتَكِفْ»، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ معهُ.
وقد أدى حرص
الدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية على إدراك ثواب ليلة القدر إلى التنوع
في الأعمال الصالحة والتنقل بينها، من صلاة ودعاء واعتكاف وغيرها من الأعمال التي
كان يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم.
2- حسن
ختام رمضان:
اندفع الدعاة
إلى الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان، لأنها نهاية السباق، وبها يحسنون
الخواتيم، فالخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، وقد
أورد الذهبي عن مُوْسَى الطَّلْحِيّ أنه قال: اجْتَهَدَ أبو موسى الأَشْعَرِيُّ
قَبْلَ مَوْتِهِ اجْتِهَاداً شَدِيْداً، فَقِيْلَ لَهُ: لَوْ أَمْسَكْتَ
وَرَفَقْتَ بِنَفْسِكَ، قَالَ: إِنَّ الخَيْلَ إِذَا أُرْسِلَتْ فَقَارَبَتْ
رَأْسَ مَجْرَاهَا، أَخْرَجَتْ جَمِيْعَ مَا عِنْدَهَا، وَالَّذِي بَقِيَ مِنْ
أَجَلِي أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ(5).
____________________________
(1) لطائف
المعارف: ابن رجب الحنبلي، ص 189.
(2) سير أعلام
النبلاء: الذهبي (2/ 447).
(3) لطائف
المعارف: ابن رجب الحنبلي، ص 186.
(4) كشف اللثام
شرح عمدة الأحكام: شمس الدين السفاريني (4/ 49).
(5) سير أعلام
النبلاء (4/ 47).