أهم المحاسن التي تكشفها شدائد الناس
«الناسُ معادِنٌ كمعادِنِ الذهبِ والفضةِ»، هذه الجملة جزء من الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وهي تبين اختلاف أصول الناس، بين نفيس وخسيس، فالمعادن المستقرة في الأرض تنقسم إلى معادن أصيلة كريمة، لها قيمة عالية وغالية، وأخرى وضيعة خسيسة لا قيمة لها، وكذلك الناس، منهم صاحب الأصل الطيب، الذي يظهر معدنه الطيب في معاملاته للناس معاملة حسنة، وهناك صاحب الأصل الخبيث، الذي يؤذي كل من حوله، ومن هنا قيل في الأمثال: «كل إناء بما فيه ينضح».
ومن أهم المواقف التي تكشف معادن الناس وتظهر ما في داخلهم من خير أو شر؛ الشدائد، وهي المواقف التي يمر فيها الإنسان بأحداث صعبة وعسيرة، يحتاج فيها إلى المعاونة والمساعدة، فما أهم الصفات التي تعبر عن المعادن الطيبة للناس عند الشدائد؟
1- الإيمان بك وتصديق قولك:
لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ.
2- المحبة لك والحرص على إسعادك:
قال الشافعي:
جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْر وإن كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي
وما شُكْرِي لهَا حمْداً وَلَكِن عرفتُ بها عدوّي من صديقي
ففي الشدائد يعرف الإنسان صديقه من عدوه، وذلك من خلال المساندة الجادة والصادقة، بخلاف من يختفي أو يتنصل من مسؤولياته في هذا الوقت العصيب، بل إن الإنسان في هذا الوقت لا يجد فرحاً أشد من فرحه بمن يسانده أو يقف بجواره، وكذلك لا ينسى هذه المواقف.
ومن الأمثلة التي تجسد هذا المعنى ما رواه مسلم عن كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة «تبوك»، وبعد الغزوة ذهب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون له، لكن كعباً لم يفعل، إذ لا حجة له، وقد عاهد نفسه أن يلتزم الصدق ولا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت عقوبته ومن صدق معه أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يهجروهم، ويعتزلوهم، وظل الأمر على هذه الحال.
قال كعب: فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى الْجَبَلَ فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ، وَاللهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي، وَهَنَّأَنِي وَاللهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ قَالَ الراوي: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ رضي الله عنهما.
3- التضحية من أجلك:
في غزوة «أُحد» ظهرت العديد من البطولات في موقف شديد، كاد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقْتَل، ومن ذلك ما فعله طلحة بن عبيد الله، حيث كان يحمي النبي صلى الله عليه وسلم من سهام الأعداء، حتى شلت يده وضُرِب في رأسه، وقد روى البخاري عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: «رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ الَّتِي وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شُلَّتْ».
أما دفاع أبي طلحة الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرويه البخاري، ومسلم، في صحيحيهما، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ «أُحُدٍ» انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ (مُحِيطٌ بِهِ بِتُرسٍ لِيَحمِيَه)، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ الْقِدِّ، يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: انْشُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ، فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ»، أي: جعل الله نحري أقرب إلى السهام من نحرك لأُصَاب بها دونك، وحاصله: أفديك بنفسي يا رسول الله.
4- الحرص على مساعدتك ورفع الظلم عنك:
أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم لا يظلم أخاه ولا يخذله، بل يساعده وينصره، ففي الحديث الذي رواه البخاري عن عَبْداللهِ بْنَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».